وزمار الحي هنا هو التراث الأردني، والذاكرة الشعبية المهددة بالإنقراض النوعي والكمي لعمالقة التاريخ الوطني وأبطال الجيش الأردني ومؤسسي هياكل الدولة منذ ريعانها، أسماء تشبه الكواكب والأجرام السماوية عالية المرتقى، نسمع بها ولا نرى لها أثرا أو توثيقا أو عرضا على أي منصة، حيث التركيز ممنهجاً على أسماء معينة فيما المؤرخون المحليون ضّخوا صفحات طويلة للتبجيل الخاص لشخوص بعينهم وحقب وأماكن، وأغفلوا القاعدة الرئيسة من رجالات التأسيس وحماة الدار، فلم يعد أحد يعرفهم بل وينكرّ الأغلب تاريخهم، وكان هذا من مسؤولية إدارة الدولة، فكل مهرجاناتنا تتنافس على الغناء والرقص وتهمل القيّم
ينطلق مهرجان جرش مجدداً، حيث بدأ مقدماً للتراث الأردني ورافعةً للمحتوى الثقافي والفني الوطني، وكان الجمهور يجد فيه مختلف الأنشطة والعروض التي تعكس ثقافة الأردنيين بمختلف عاداتهم وتقاليدهم وغنائهم ودبكاتهم، ولا زلنا نذكر فرقة كورال الفحيص حين تشدو بالطرب العربي الفصيح، ثم انتهينا الى تقزيم المهرجان على شكل سهرات يبتزنا فيه مغنون عرب ليحيّوا حفلاً غنائياً لا يرتقي الى نغمة واحدة تدندن بها السيدة فيروز أو الأردنية ميسون الصناع
هنا أجدني مضطراً إلى نقل تجربة مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث في المملكة العربية السعودية لأنني أستضفت فيه، وفقط من باب المقارنة حيث انطلق بعد «جرش» بسنتين، وأنتج وقدم للعالم أشهر الشعراء السعوديين، وسجل سبعة وعشرين أوبريتا وطنيا غنائيا لكبار الشعراء والمطربين، وبات من أشهر المهرجانات العالمية محافظا على زخمه في إعادة إنتاج الذاكرة الوطنية وتعريف الجمهور بمختلف العادات والتقاليد الإجتماعية من خلال قرية كاملة أقيمت تعكس جميع بيئات المجتمع السعودي وأزيائه وأطعمته ومنتجاته الصناعية الخفيفة الجميلة من نسيج ونحاسيات وأشكال للسيوف والخناجر، ومعرض للكتاب يزوره آلاف الرواد، ما يجعله وعاءً لتاريخ السعودية بالكامل منذ عهد التأسيس
بل ان برنامج المهرجان ثري جداً، فهو ممثل حقيقي لتراث البلد، يبدأ بسباقات الفروسية والهجن التاريخي ثم الأوبريت الغنائي، وهذا لليوم الأول الذي يرعاه ويحضره الملك شخصياً وكبار رجال الدولة وكبار الضيوف من زعماء وشخصيات بارزة، ثم تبدأ فعاليات المهرجان لأيام يقدم خلالها كل ما يمكن للمرء أن يتمنى مشاهدته من تراث وتاريخ البلاد، وهنا يمكن تلخيص الجنادرية بأنه حارس الثقافة والتراث الوطني، بعيداً عن المهرجانات السياحية التي دخلت متأخرة هناك، وهو يوصف بالمؤشر الذي تتخذه السعودية للدلالة على الاهتمام بالتراث والثقافة والتقاليد والقيم العربية الأصيلة والتأكيد على الهوية العربية والإسلامية ومناسبةً لإبراز صور التاريخ السعودي وتوثيقه بشكل حي من خلال تأصيل الموروث الوطني ومحاولة الإبقاء والحفاظ عليه للأجيال القادمة