ندفع فاتورة مواقفنا السياسية، هذا متوقع، سبق أن قلت في هذه الزاوية منذ نحو سنة « لكل موقف «ثمنُه» السياسي، والأردن وضع نفسه في خندق غزة، واختار التصعيد لأعلى سقف مقارنة مع غيره من البلدان العربية والإسلامية»، الآن لا وقت لاستدعاء الحكمة، ما حصل حصل، وعقلنة الخطاب وصفة لم ينتهِ مفعولها بعد، المطلوب أن نفكر بهدوء وبدون انفعال، كيف نرمّم تحالفاتنا ونخرج من محاولات التحجيم والتهميش التي تستهدفنا، كيف نستعيد دورنا ونقدم اوراقنا كلاعب مهم في المنطقة، بصيغةٍ أخرى، كيف نعود بالأردن كما كان في علاقته مع واشنطن تحديدا، ومحيطه العربي والإقليمي، ومع العالم أيضا؟
لدي ملاحظات عديدة، لا يتسع لها المجال هنا، سبق أن قلتها، أكثر من مرة، لوزير الخارجية، الصديق أيمن الصفدي، وغيره من المسؤولين، لا أدّعي أنني كنت على صواب، لكن لدي قناعة، وما زالت، بأن بعض الفرضيات التي بنى عليها البعض خطابنا العام تجاه غزة والحرب لم تكن دقيقة في المجمل، وأن مراجعتها وتقييمها كان ضروريا، صحيح نجحنا في احتواء الشارع، وتقديم سردية ضد الاحتلال، وقدمنا كل ما يلزم من دعم لإخواننا في فلسطين، لكن الأهم، بتقديري، هو ما صبّ في رصيدنا كدولة أردنية؛ أقصد ما ربحناه وخسرناه، الأردن القوي هو القادر على الصمود والمواجهة، وهو الأقدر على خدمة أشقائه وكسب حلفائه.
ما علينا، الآن نحن أمام مرحلة جديدة عنوانها «الترامبية»، أول رسالة وصلتنا هي تجميد المساعدات الاقتصادية، ثم جاءت الرسالة الثانية وعنوانها «التهجير» من غزة إلى الأردن، ومن المتوقع أن تأتي رسائل أخرى.
البعض فهم الرسالتين في سياق ممارسة الضغوطات، أو في سياق إجراءات «جسّ النبض»، آخرون يعتقدون أنها مجرد ردود على مواقف سياسية أردنية، أو مطالب قُدمت الينا ولم نأخذها بعين الاعتبار، أو محاولات «ابتزاز» سياسي للقبول بالأمر القادم، مهما تكن الدوافع فإن علاقتنا مع واشنطن (بعيدا عن الخطابات الشعبوية) مهمة واستراتيجية، ولا يجوز أن نتعامل معها بمنطق التسرع والانفعال، مصلحتنا الوطنية تفرض علينا أن نذهب إلى واشنطن، وأن نشتبك معها، أو أن نبادر (على قاعدة التفاهم والحوار) إلى وضع مبادراتنا ومقترحاتنا، (هل أقول صفقاتنا) على المركب الذي تديره وتتحكم فيه، أي كلام آخر خارج هذا المنطق السياسي سيكون منزوعاً من الحكمة وحسن التدبير، ومن حسبة المصالح وتقدير العواقب أيضا.
لا يقبل الأردن أن يكون دولة مهمشة، ولا طرفا ضعيفا، ولا يمكن أن يرضخ لأي ضغوطات تهدد وجوده أو لا تخدم مصالحه العليا، الأردن رقم صعب في هذه المنطقة، له تاريخ ودور، ولديه ما يمكن أن يقدمه، كما أن طريقه إلى واشنطن ما زالت معبّدة بالمصالح المشتركة، و بالأشواك أيضا، المهم أن نفك أسرار المعادلات القائمة، ونخرج من الأسوار التي اغلقناها على أنفسنا، ونفكر في صندوق الخيارات والأولويات الأردنية، لقد دفعنا أثمانا باهظة لأدوار لم تصب في رصيدنا بالشكل المباشر، ولم تُرضِ أشقاءنا ولا حلفاءنا، حان الوقت لنفكر ببلدنا أولا، ونغير أدواتنا السياسية في التعامل مع غيرنا، ونبحث في عمقنا العربي عن مصدات تساعدنا على تجاوز هذه المرحلة الصعبة.
صحيح، لدينا قلق حقيقي ومشروع من ترامب وإدارته، جربنا ذلك في السابق وتجاوزناه، ولابد أن نستفيد من دروسه، لكن المسألة، الآن، تبدو مختلفة، وربما خطيرة، ولهذا لابد أن نتكيف مع الواقع الجديد؛ واقع الصفقات والمسافات الطويلة، واقع الفرص التي يتم انتزاعها لا انتظارها، واقع الانحناء للعواصف لكي تمر، واقع النجاة من الخسارات إن ضاقت حسابات الأرباح، واقع أعطيك حلاً بدلاً من « سوف أرد عليك الجواب»، والأهم واقع الأردن أولاً قبل فتح أي ملف آخر، وفي هذا كلام طويل، يحتاج مزيداً من المصارحات والمصالحات أيضاً..