وللتعرف على مدى تفاقم مشكلة المخدرات في الأردن فإنه من المفيد الرجوع إلى تصريح سابق لإدارة مكافحة المخدرات في العام 2009، أشارت فيه إلى أن عدد القضايا المضبوطة في العام 2008 كان حوالي 2809 قضية، وبمقارنة هذا العدد مع العدد المعلن عنه عن العام 2018 فقد زادت نسبة قضايا المخدرات المضبوطة خلال عشر سنين حوالي 600% ، وهي نسبة زيادة لا ينبغي التقليل من شأنها ولا ينفع فيها استمرار القول بأن الأردن لا زال بلد ممر وليس مقرا للمخدرات.
وإذا كنا نُقدِّر جهود إدارة مكافحة المخدرات في التصّدي لهذه الآفة الخطيرة، ونترّحم على أرواح الشهداء التي فُقدت أثناء تأدية الواجب، ونُدرك بنفس الوقت حجم التحديات المتزايدة التي فرضت نفسها في السنوات الأخيرة ومنها ارتفاع نسب البطالة بين الشباب وارتفاع معدلات الفقر، وتراجع دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية وأهمها الأسرة في إرساء القيم الاجتماعية والدينية لصالح الشبكات الاجتماعية، وغياب البرامج الحكومية التي يمكن من خلالها استغلال طاقات الشباب في أنشطة منتجة تكرِّس إحساسهم بالمشاركة في صنع القرار، وانتشار الفوضى في دول مجاورة للأردن مما شجّع عصابات المخدرات على زيادة حجم أعمال التهريب، وتطور التقنيات التي تستخدمها العصابات في ترويج وتهريب المخدرات وبخاصة من خلال المنتديات الالكترونية التي يرتادها الشباب، واتجاه هذه العصابات إلى تخليق مخدرات من مواد محلية عالية السمية وبتكلفة بسيطة يسهل ترويجها وبيعها (مخدر الجوكر)، لكن ذلك كله يجب أن لا يمنعنا من المطالبة بضرورة مراجعة منظومة السياسات والخطط التنفيذية الموضوعة ومدى شمولها وترابطها من أجل تحقيق الغايات المرجوة في الوقاية والعلاج من المخدرات .
وعلى ذلك فإنه من المتعذر الحديث عن جدوى الجهود المبذولة في مكافحة المخدرات بدون وجود سياسة اقتصادية تعمل على خفض نسب الفقر ومعدلات البطالة، وفي هذا السياق فإننا نريد أن نُبدي تفاؤلا في خطط الحكومة فيما يتصل بتوفير ثلاثين ألف فرصة عمل إضافية للأردنيين خلال العامين القادمين على الوجه الذي ورد في وثيقتها المعنونة بـ "أولويات عمل الحكومة " ، لكننا بنفس الوقت فإننا نتوقع البدء الفوري بتنفيذ هذه الخطط لتوفير ما يمكن أن يتيسر حاليا من هذه الفرص، وكذلك تسريع تنفيذ برنامج خدمة وطن وتوجيهه إلى الشباب اللذين يقطنون في المناطق المهمّشة.
وفي إطار موازٍ فإن هنالك حاجة لإدماج الشباب في عملية صنع القرار ونقلهم من دائرة الإقصاء والتهميش - التي تدفع باتجاه الانحراف - إلى دائرة الفعل والمشاركة من خلال استقطابهم في أنشطة سياسية تحت مظلة الأحزاب و أنشطة ثقافية تحت مظلة أندية الشباب، والواقع أن الجهود المبذولة على هذه الصعد لا زالت خجولة وبطيئة وغير محسوسة .
وأما عن السياسات الاجتماعية المتعلقة بإعادة الاعتبار لدور الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية، فإنه وفي إطار واجبات وزارة التنمية الاجتماعية في رعاية الأسرة، فإنه من المطلوب منها تطوير عمل مراكز تنمية المجتمع المحلي المنتشرة في مناطق مختلفة من المملكة، لتأخذ على عاتقها وبالتشبيك الكامل مع مؤسسات المجتمع المدني إيجاد البرامج التوعوية الموّجهة إلى الأسر المستفيدة حول أساليب التنشئة الاجتماعية، وتقديم برامج تدريبية تساعد الأسر التي يُبتلى أحد أفرادها بآفة تعاطي المخدرات على كيفية التعامل مع مثل هذه الحالة وفي مساعدته على تجاوز هذه المحنة، وبنفس الوقت توفير خدمات الإرشاد النفسي والاجتماعي المجاني في هذه المراكز، لأن الإحباط واليأس وقلة ذات اليد في غياب التدخل المناسب يمكن أن يؤدي كذلك إلى إدمان المخدرات.
كذلك هنالك الكثير من الجهود لا زالت مطلوبة من وزارة التربية والتعليم على هذا الصعيد، فعلى الرغم مما نشر عن الدور الذي تشارك فيه هذه الوزارة في مكافحة هذه المشكلة ومنها توجيه المدارس إلى تبّني أنشطة تهدف إلى التنبيه إلى خطورة المخدرات وسبل الوقاية منها، فإن هنالك أولياء أمور لطلبة ملتحقين في مدارس مختلفة لم يسمعوا من أبنائهم أية إشارة إلى أنشطة مدرسية بهذا الخصوص .
كما أن الاختراق القيمي الذي تتيحه العولمة وبالتزامن مع تآكل المخزون الروحي للأمة يهيئ المناخ لانحرافات عدّة، لذلك فإن المطلوب بناء هوية تُغذيها الخصوصيات المحلية بكل روافدها الإيجابية والتي يمكن أن لا تتعارض مع القيم الأخلاقية والإنسانية العالمية المشتركة التي تثمنها جميع المجتمعات البشرية وهي الجهود التي لا زالت غائبة حتى هذه اللحظة .
ثم هنالك حاجة لمراجعة السياسة التشريعية بخصوص جرائم المخدرات، وذلك بإجراء دراسة موضوعية ومعمقّة لقانون المخدرات والمؤثرات العقلية الساري المفعول لتقييم مدى فاعلية هذا القانون في تحقيق الردع المطلوب ومعالجة مشكلة المخدرات، ونشير بهذا الخصوص إلى تجربة جمهورية الصين الشعبية التي اتبّعت سياسة عقابية متشددة مقترنة بحملات توعية شكلّت رافعة للجهود الحكومية في المكافحة، فتمكنت في السنوات الأخيرة من القضاء على جريمة تعاطي المخدرات رغم أن تعدادها السكاني حسب آخر الإحصائيات وصل إلى حوالي مليار و 400 مليون نسمة، وفي هذا السياق فإننا نتساءل عن الغياب الحاد لدور اللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات والتي أنشأت بموجب المادة (31) من قانون المخدرات والمؤثرات العقلية والتي لم نسمع عن جهودها على هذا الصعيد.
كذلك ينبغي مراجعة النظم العقابية المتّبعة في مراكز الإصلاح والتأهيل لتقييم مدى نجاحها في تهذيب سلوك الجاني وتأهيله نفسيا وتثقيفه دينيا ورعايته اجتماعيا وتدريبه مهنيا من أجل إعادة دمجه في المجتمع، وهنا نجد المفارقة في قانون العفو العام الذي تساهل في شمول معظم جرائم التعاطي والحيازة والمتاجرة بالعفو العام دون التثبت من أن مرتكبي هذه الجرائم قد خضعوا للتأهيل المناسب الذي يُمكّنهم من العودة إلى أحضان المجتمع، الأمر الذي نعتقد بأنه قد أهدر جهود إدارة مكافحة المخدرات على هذا الصعيد.
وأخيرا يمكن القول بأن جرائم المخدرات في ازدياد، وتبدو إدارة مكافحة المخدرات بأنها اللاعب الرئيسي في هذه المهمة المعقّدة، ولذلك فإنه لا بد من بناء إستراتيجية وطنية تستند إلى رؤية شمولية وتُترجم في برامج تنفيذية متكاملة تخضع لمؤشرات قياس أداء، وتُراجع سنويا على نحو يمكن معه تحديد مدى التقدم في الجهود المبذولة في مكافحة المخدرات ومدى الحاجة إلى مراجعة السياسات والبرامج التنفيذية الموضوعة لهذه الغاية.