يُصر رجل الأعمال دونالد ترامب على تكريس مفهوم الغطرسة بالتعامل مع القضايا ذات الشأن الشرق الأوسطي والعربي على وجه الخصوص، وكأنها صفقات تجارية مدبرة بعقلية رأس المال، وليس وفقاً لمنهجية سياسية، ضارباً المآسي التي شردت شعوب وقتلت أرواح أبرياء بعرض الحائط، على اعتبارها صفقات تجارية، يتم تمريرها وإقرارها بين عشية وضحاها.
ترامب، الرئيس السابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، تعمد أن يدلي بتصريحاته الأخيرة وقوفاً على متن الطائرة، كرسالة مفادها بأن الحل بسيط، ويمكن تمرير الملف الأعقد بالمنطقة، دون اختيار قاعة مؤتمر أو مقابلة تلفزيونية أو صحفية مجدولة في ستوديو أو قاعة رسمية، ليؤكد للعالم أجمع بأن هذا الأمر تحصيل حاصل، ضمن نهج الغطرسة الذي يتخذه موقفاً ووسيلة، تزامناً مع قراره بتجميد المساعدات الخارجية وإيقاف المساعدات الجديدة.
وتذرع ترامب بإحلال السلام في المنطقة خلال الإيجاز الصحفي المقتضب، والذي حظي بمباركة إيتمار بن غفير و بتسلئيل سموتريتش، أكبر دليل على أن الخطة "مدبرة" تلبية لمطامع كيان الاحتلال التوسعي، وتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن ومصر.
تصريحات "التاجر" ماهي إلا مقامرة سياسية جديدة مرفوضة، تذكرنا بخطة رئيس وزراء الاحتلال بالإنابة الأسبق إيغال آلون، والتي وصفها وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر بخطة "البالون والنقانق"، التي كانت تنادي بتفريغ المدن الرئيسية في الضفة الغربية وزراعتها بالمستعمرات، لمحاصرة المدن الفلسطينية كنابلس والخليل ورام الله وجنين وطولكرم وأريحا بالمستعمرات...، فيما كان يستدعي تحقيق هذه الخطة بتهجير أعداد ضخمة من السكان نحو صوب الأردن، والهجوم اليوم على جنين مجدداً ما هو إلا بداية للشروع بتنفيذ هذه الصفقة البائسة بمسميات أخرى وببنود إضافية، التي رفضها المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه.
متلازمة الجهل والغطرسة التي يُصدرها ترامب للعالم أجمع في تصفية القضية الفلسطينية، لن يدفع ثمنها الأردنيون أمام مشاريع تخدم الاحتلال وتتناقض مع تطلعات الشعب الفلسطيني بالعودة إلى أرضه وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني، ما يؤكد وأد أحلام الفلسطينيين الذين حققوا بصمودهم انتصارًا كبيراً على الاحتلال في معركة طوفان الأقصى.
الأردن اليوم لن يكون بديلاً عن فلسطين، وحق العودة يظل مشروعاً، لا يمكن المقايضة أو المساومة عليه، أو التنازل عنه، وكفله القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، والشرعية الدولية ذات الصلة، وفي مقدمتها القرار 194.
المجتمع الدولي مطالب اليوم بوقف نظرية الكيل بالمكيالين، وتهجير الأشقاء الفلسطينيين وتصفية قضيتهم، الذين لم يتبنوا في حياتهم إلا خيارين: الأرض أو السماء، ولا خيار ثالث لهما، فيما قال الأردن منذ الأيام الأولى لمعركة طوفان الأقصى بصريح العبارة: "تهجير فلسطينيي الضفة للأردن بمثابة إعلان حرب".
وعقب تصريحات ترامب الأحادية، فإن على الدولة الأردنية أن تكون أكثر حذراً بتصريحات مسؤوليها نظراً لخصوصية المرحلة، وأن تتسم بالحكمة والعقلانية، وأن تتعامل ضمن خطة شمولية لمجابهة مقتضيات هذه الواقعة، وتجنب الحالة الاندفاعية بالطرح، خاصة أن جميع الأنظار تتجه إلى الماكنة الإعلامية الرسمية لمعرفة ماهية الرد، والأردن قادر، بلا شك، على التمسك بمبادئه وإرساء منظومته الوطنية دون المساومة على أي أمر كان.
أما المجلس التشريعي الرقابي، الذي يضم في جعبته التعددية الحزبية وأقطاب سياسية عديدة، فإن عليه أن يكون أحد أبرز الأدوات الفاعلة، وأن ينخرط أعضاؤه في أعمال تصب في مصلحة الوطن بالشكل الذي تتطلبه المرحلة، ليتم تحصين جبهتنا الداخلية من جهة، وأن تتغلب المصلحة العامة على الأمور الخاصة من جهة أخرى، لا سيما أن المرحلة اليوم تتطلب بأن تكون الوجهة الأولى لمجابهة التحديات وتجاوزها، تتمحور حول الهم الوطني، وضرورة عدم تكرار أخطاء سابقة.
والسؤال اليوم، والإجابة عليه مرهونة للأيام المقبلة، هل الماكينة الإعلامية الأردنية قادرة على التعامل مع هذا الملف بحرفية ومهنية عاليتين، وتمتلك جاهزية حقيقية للرد كما يلزم على خطط بهذا الحجم، تقدم وفق إطار وطني شمولي؟
ختاماً، الضغوط ليست جديدة على الأردن، كوطن نشأ في رحم التحديات والصراعات ضمن إقليم لم يهدأ منذ عقود طويلة، إلا إنه بقي صامداً وثابتاً في وجه هذه الظروف، واستطاع بحكمة قيادته ووعي شعبه أن يلوذ بالوطن إلى بر الأمان، ما يؤكد قدرته على مجابهة الأخطار المحدقة من كل حدب وصوب، إلا أن هذه المرحلة غير الطبيعية تستدعي التنبه، وإدراك خطورة المرحلة، والاستفادة من أخطاء الماضي، وبلورتها على هيئة إيجابيات تترجم بشكل واقعي.