(2)
فلا تترك الأجهزة الأمنية، معارضي بلدانها بلا رقابة وبلا ضبط. فالاجهزة الأمنية تمتلك قدرات متابعة فنية وتجربة عميقة وتراثا عريقا من ادوات الإحتواء وتحويل المعارض الصعب إلى مُنفِّس عذب !!
و"التنفيس" علم ومهنية ومؤسسة احترافية وفن متكامل الأركان، حتى ان اجهزة التنفيس المحترفة، كثيرا ما تطلق الإشاعات والنكات والتعليقات ضد نظامها لامتصاص الاحتقانات المجتمعية !!
ويستحيل ان تعمل «المعارضة الخارجية» دون أخذ الموافقة، من أجهزة الدولة الامنية والسياسية، التي تعمل على ارضها.
وتحتاج المعارضة بالتاكيد إلى نفقات، لأن معظم المعارضين ليسوا اثرياء. كما ان الأثرياء منهم، لا ينفقون من حر اموالهم على قضايا عامة !!. وهكذا تضطر المعارضة الى «التنسيق والتعاون» مع الأجهزة الأجنبية.
المعارضة والموالاة، تقاليد وعراقة ومصالح ومنظومة وعمق وتراكم وعمل جماعي منظم طويل الأجل.
المعارضة الراشدة ضرورة وليست ضررا. وهي مصل ومضاد قانوني وأخلاقي ضد الفساد والإستبداد.
ومن قال ان صناعة المعارضين والقادة وتخليقهم، تتم دائما في دوارق الشعب وفي أرحام النمو السياسية الطبيعية ؟
سياسيا، الصوت العالي لا يؤسس موقفا قابلا للنمو، و لا يؤثث خطابا وطنيا يجتمع الناس عليه. ولا يصلح حجة. وكنا نعتبر الأعلى صوتا والأكثر حدة في بياناته وخطاباته وهتافاته، مدعاة شبهة !!
اما الحط من قدر الوطن، والتنمر على مؤسساته، اذا لم يكن عملا تخريبيا، فإنه سيكون تشويشا وتشويها، ولن يكون ابدا عملا سياسيا وازنا.
المعارضة الوطنية نسقٌ وبرنامجٌ وجهدٌ ونضالُ طلائع جماعي تراكمي شاقٌ طويلُ الأجل، يجيدها اولو العزم ذوو الخلق والتكوين الديمقراطي والقدرة على مشاق العمل الجماعي واكلافه وقيوده.
(3)
كنا نقف على مدخل قبة مجلس النواب استعدادا للدخول الى الجلسة: طاهر المصري، عبدالرؤوف الروابدة، علي ابو الراغب، عوض خليفات، صالح رشيدات، عبدالرحيم العكور، مفلح الرحيمي وحمزة منصور.
الملاحظ ان بعض المواطنين يلجأون اليوم إلى التعميم واعتبار كل من تولى منصبا حكوميا، شخصا متهما فاسدا لصا حراميا مليارديرا. هكذا... "صَم لَم" ولكنهم يشيرون بالاحترام إلى شخصيات تولت مسؤوليات عامة كبرى مثل وصفي التل وهزاع المجالي وشفيق ارشيدات واحمد الطراونة وعبد الوهاب المجالي واسحق الفرحان وخليل السالم وحكمت الساكت واحمد عبيدات وعبد خلف داودية ومحمد عودة القرعان وسليمان عرار وابراهيم الحباشنة وذوقان الهنداوي وعبد الله غوشة ومحمود السمرة وناصر الدين الأسد ومحمد اديب العامري وغيرهم عشرات المئات.
(4)
في حقبة الخمسينات والستينات كان برنامج (ال سي. آي. ايه) لمكافحة الشيوعية يدفع 20 ألف دولار، على كل ورقة استنكار لعضو من أعضاء الاحزاب الشيوعية. فكانت الأنظمة السياسية في العالم الثالث، تسعى للحصول على أوراق استنكار الحزب الشيوعي، من الشيوعيين ومن غير الشيوعيين!! لتحصل مقابل ذلك على ملايين الدولارات، وعلى سمعة انها تقف سدا منيعا ضد انتشار الأفكار الشيوعية.
ورغم ذلك فقد تميزت مواجهة المعارضة الأردنية بأنها لم تَرقَ الى حدود الاغتيالات والاعدامات والخطف والإخفاء والدهس بالخيل كما حصل لمئات المعارضين المصريين والعرب، وابرزهم الشيوعي المصري شهدي عطية الشافعي عام 1960، باستثناء حالة اردنية واحدة في تاريخنا السياسي مارسها خبير أمني ألماني طرده الملك الحسين بسببها هي حالة الشيوعي الشركسي عبدالفتاح تولستان التي وقعت في 24 شباط 1962.
والمعارضة السياسية الثانية، هي المعارضة الحزبية الإصلاحية العلنية، التي رفعت شعار «اردن وطني ديمقراطي»، الذي نادى بعودة الحياة النيابية وإلغاء الاحكام العرفية وتشريع الأحزاب السياسية واطلاق الحريات العامة، بدل شعار المعارضة القديم العقيم الذي لا يمكن تحقيقه: «الإطاحة بنظام الحكم».
لقد انتقلت المعارضة السياسية الأردنية من «معارضة الحكم» الى «معارضة الحكومات»، بهديٍ من مناخ الإنفتاح والمصالحة، الذي كانت اول من دعت اليه في منتصف الثمانينات، منظمة الجبهة الديمقراطية في الأردن (مجد). وبهدي مؤثرات هبة نيسان 1989 وانتخاباتها. والمناخ الذي وفّره الميثاق الوطني عام 1991 بمشاركة أعضاء من الأحزاب المحظورة كالحزب الشيوعي ومجد وحزب الجبهة الشعبية والعديد من الشخصيات الوطنية.
(5)
لقد وفّر مناخُ المصالحة الوطنية دعما كبيرا للنظام السياسي، مكّنه من تحمل تبعات الضغط الهائل، الاقتصادي والسياسي الذي نجم عن قرار الملك الحسين يرحمه الله بانحيازه الى الحل العربي- العربي، لتحقيق انسحاب العراق، الذي استدرجته السفيرة الامريكية غلاسبي لغزو الكويت، بدلا من الانضواء في الحملة الامريكية ضد العراق، المشهورة باسم «حفر الباطن».
لقد سخّر الملكُ الحسين المعارضةَ الأردنية واستقوى بها، ومارس جدلية وتناوب «توزيع الأدوار» معها، بمهارة سياسية إبداعية لا تضاهى. وخاصة مع تنظيم الاخوان المسلمين، مكنته من الحفاظ على جبهة داخلية متماسكة، رغم الأوضاع الاقتصادية المضطربة الناجمة عن الحصار الخانق الاقتصادي والسياسي المضروب على الأردن بصفته من «دول الضد»
في الحُكم والشارع الأردنيين، رشدٌ بالغٌ يعتبر المعارضة موقفا اخلاقيا دستوريا حضاريا ثقافيا، من ضرورات الحكم الرشيد وأساسياته وبدهياته. ويعتبرها علامة كرامة ووعي وحيوية شعب.
وكما انتقل معارضون الى صفوف السلطة والموالاة، فقد انتقل موالون الى صفوف المعارضة. وحالة مدير المخابرات الأسبق احمد عبيدات، نموذج على ذلك التحول وعلى القبول الشعبي به والموافقة على انتقاله.
لقد بدأ مبكرا، الانفتاحُ السياسي الأردني بين القصر والمعارضة. وتجلّى ذلك حين كلف الملك الحسين، ملك الحداثة والحكمة والحنكة، زعيمَ المعارضة السياسية المرحوم سليمان النابلسي، بتشكيل حكومة إئتلافية حزبية قومية ديمقراطية (تشرين الأول 1956- نيسان 1957)، ضمت «قرامي» رجالات الوطن والمعارضة من الضفتين، مثل شفيق رشيدات وعبد الحليم النمر وعبد الله الريماوي وأنور الخطيب ونعيم عبد الهادي وسمعان داود وصالح المجالي وصالح المعشر وعبد القادر الصالح.
وكما في الاردن، فقد تم الانفتاحُ والانفراج في المغرب، حين كلّف الملكُ الحسن الثاني يرحمه الله، المحامي عبد الرحمن اليوسفي، المعارض الاشتراكي، المحكوم بالإعدام برئاسة الحكومة (4 شباط 1998 - 9 تشرين الأول 2002). في تجربة ثمينة تبعها لاحقا اغلاق ملف «سنوات الرصاص» بين العرش والمعارضة، من خلال هيئة الانصاف والمصالحة، التي أعطت فرصة لضحايا الانتهاكات للتعبير على شاشة التلفزيون والاذاعة المغربية عما تعرضوا له من تنكيل وتعذيب وإهدار للكرامة، وما تعرض له ذووهم من أضرار جسيمة مادية ومعنوية، في الفترة من 1956 إلى الفترة 1999.