للقلم قيمته ورمزيته وثقله، فهو عنوان العلم، ورمز البيان، وشعار العلماء والأدباء، به أقسم أربنا، فدلّ على مكانته المرموقة عند المؤمنين.
بهذا القلم ارتفع أناس من حضيض الفقر إلى قمة الغنى، ومن أرض الجهل إلى سماء العلم، ومن غياهب الظلام إلى شعاع النور، وبه نال الكتاب المنازل العليا، والمكانة الرفيعة.
ولكن هذا القلم قد يسبب لصاحبه المتاعب والشقاء، فيدخله السجن تارة، ويعرضه لمحاولة اغتيال تارة أخرى. فكما أن القلم قادر أن يدخل صاحبه إلى القصور، هو قادر أيضا أن يجعله من أهل القبور.
ومن أدبنا القديم نعرف قصة أبي الطيب المتنبي الشاعر الذي قتله شعره، حيث هجا بأبيات لاذعة وقاسية ضبة بن يزيد العتبي، وهو قاطع طريق، غادر، بذيء اللسان، هجاه المتنبي بقصيدة كان بعض أبياتها من البذاءة بحيث سيبادر مقص أي رقيب إلى إجراءاته الجراحية معها، حذرا من خدش حياء القراء، وسأذكر ما يمكن أن يذكر منها:
ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه
رَمَوا بِرَأسِ أَبيهِ وَباكَوا الأُمَّ غُلبَه
فَلا بِمَن ماتَ فَخرٌ وَلا بِمَن عاش رَغبَه
وَما عَلَيكَ مِنَ القَت لِ إِنَّما هِيَ ضَربَه
وَما عَلَيكَ مِنَ الغَد رِ إِنَّما هُوَ سُبَّه
وَما يَشُقُّ عَلى الكَل بِ أَن يَكونَ اِبنَ كَلبَه
فقام فاتك الأسدي (خال ضبة) بالانتقام لأخته وابنها فاعترض طريق أبي الطيب المتنبي بمجموعة كبيرة من الرجال، ولما رأى المتنبي هذا العدد عزم على الفرار، فقال له غلامه: لا يتحدث عنك الناس بالفرار وأنت القائل:
الخيل والليل والبداء تعرفني..والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فكرّ المتنبي راجعا، وقاتل حتى قتل سنة (354هـ).
وربما تغيرت الأسباب والأزمان، ولكن الموت واحد، فالأقلام كانت ولا تزال سببا في سرور بعض الناس وغضب آخرين، فيقوم الغضبان باغتيال صاحب القلم، تعبيرا عن كرهه للقلم وصاحبه.
ومن الذين اغتيلوا بسبب أقلامهم، الروائي والقاص والصحفي الفلسطيني غسان كنفاني، الذي رسم القضية الفلسطينية برواياته وقصصه، فلا تزال هذه اللوحة في ذاكرة الأدب العربي، وهذا ما لا يريده المحتلون. وكان من أبرز رواياته (عائد إلى حيفا) التي نشرت عام 1969م، التي ترجمت إلى اللغات: الإنجليزية، واليابانية، والروسية، والفارسية. كما قدمت هذه الرواية على شكل فيلم سينمائي، ومسلسل تلفزيوني، ومسرحية. وفي عام 1972م، بعد أن شكّل غسان ثورة في قصة، وسلاحا في رواية تم اغتياله بيد (الموساد) بتفجير سيارته في بيروت، وكان عمره 36 عاما.
وكذلك للرسم بالقلم نصيب من هذه النهايات المأساوية، وهنا نتحدث عن رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، الذي ابتدع شخصية حنظلة في عام 1969م في الكويت، وحنظلة صبي في العاشرة يدير ظهره للناس، ويعقد يديه خلف ظهره، إشارة للفلسطيني المعذّب والقوي في نفس الوقت. رسم ناجي ما يزيد عن أربعين ألف رسم كاريكاتوري، كان يجسد بها القضية الفلسطينية، وينتقد قادة الفصائل العاملة في الساحة الثورية بكل حدة وشدة، حتى وُجّهت له رسالة مفادها: لقد تجاوزت كل الخطوط الحمراء. وكان ناجي عنيدا في الحق، فلم يلتفت لهذه الرسالة ولا لغيرها، وفي 22/7/1987م، أطلق شاب الرصاص على ناجي في أحد شوارع لندن، لتستقر تحت عينه اليمنى، ويبقى في غيبوبة حتى أسلم روحه في 29/8/ 1987م.
هذه حصائد ما سطرته الأقلام، شعرا كان أو نثرا، أو حتى رسوما كاريكاتورية، فبعض الناس لا يحتمل الحبر الذي يسيل من هذه الأقلام، فيردّ على الحبر الأسود بجواب كُتب بالدم الأحمر، والمسألة كلها ألوان.
الدستور