لم يتبقّ أمام العدو الصهيوني لإعلان «الحرب» عليه, سوى رجل الدين الوقور وكُلِيّ الاحترام «البابا فرنسيس», الذي شكّل منذ إعتلائه الكرسي البابوي, أملاً للمؤمنين من أتباع الديانة المسيحية, نظراً لمواقفه المعروفة قبل ذلك, وخصوصاً بعد إدخاله إصلاحات جوهرية داخل الكنيسة الكاثوليكية, وطيِّه صفحات سوداء قارفها «عاملون» داخل الكنائس, وُصِفت بالمُخجلة وغير المقبولة من قبل مئات ملايين الكاثوليك. ناهيك عمَّا أشاعه من إرتياح لدى أتباع الديانات السماوية الأخرى, عبر دعواته المقرونة بالأفعال, لإشاعة الحوار وثقافة السلام ونبذ العنف والحروب, والانتصار للفقراء والمحرومين والمنبوذين في أرجاء المعمورة.
وإذ تكرّرت دعوات البابا فرنسيس إلى وقف الحرب, التي يشنّها ساسة وجنرالات وجيش النازية الصهيونية على قطاع غزّة, بما في ذلك تجنيب المدنيين ويلات الحرب والحصار والتجويع, وإيصال المساعدات الإنسانية والطبية لهم, فإن قادة الدولة العنصرية لم يُصغوا إلى تلك النداءات, بل واصلوا حرب إبادة وتهجير وتجويع وتدمير, لم يتردّد كثيرون في العالم, من مؤسسات حقوقية (ومنها مؤسسات إسرائيلية/ بيتسيلِم, وأيضاً أميركية/هيومان رايتس ووتش, وبريطانية/ منظمة العفو الدولية/ أمنستي), وأخرى أممية وثالثة إنسانية, ناهيك عن دول وبرلمانات, في وصف إرتكابات الدولة الاستعمارية, بأنها «حرب إبادة وتطهير عرقي».
ماذا قال البابا كي يُثير «غضبَ» الفاشيين في تل أبيب؟.
لِنبدأ أولاً بالتسلسل التاريخي لتصريحات بابا الفاتيكان. إذ «إقترحَ» يوم 17/11/2024 في قُداس بمناسبة «اليوم العالمي للفقراء بالفاتيكان»، أن «يدرُسَ» المجتمع الدولي, ما إذا كانت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة, تُشكلُ «إبادة جماعية» للشعب الفلسطيني. وفي مقتطفات نُشرت من كتاب جديد يصدر قريباً، قال البابا: إن «بعض» الخبراء الدوليين, يقولون «إن ما يحدث في غزَّة, فيه خصائص الإبادة الجماعية». كما تضمنَت المقتطفات التي نشرتها صحيفة «ال ستامبا» الإيطالية/اليومية, قول البابا: «يجب أن نُحقق بـِ«عناية» لتقييم, ما إذا كان هذا يتناسب مع التعريف الفني لـ«الإبادة الجماعية», الذي صاغه خبراء القانون والمنظمات الدولية.
دعوةٌ بابوية حذِرة بكلمات ومصطلحات وعبارات مدروسة بعناية, محمولة على حِسٍ إنساني عميق, تتوسّل مُقاربة تفوح منها رائحة «رجاء» بوقف سفك الدماء, التي تواصل آلة القتل الصهيواميركية ممارستها, بلا التزام أو اهتمام بقوانين الحرب, بل ازدراء للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي.
لم تصمت حكومة العنصريين والقتلَة في تل أبيب, على ما «إقترحه» البابا, بل راحت تتهِمه بـ«إزدواجية المعايير», على ما جاء في رسالة مفتوحة نشرتها صحيفة «إيل فوليو» الإيطالية, ردَّاً على «إقتراح» البابا فرنسيس, لوزير ما يُسمّى «وزارة شؤون الشتات», العنصري/عميحاي شيكلي (وهو بالمناسبة الوزير الذي كان دعا, بعد ملحمة 7/أكتوبر 2023, إلى ضرب قطاع غزة بـ«القنبلة النووية»)، واصفاً/شيكلي بوقاحة تصريحات البابا (تصل إلى حد «الإستخفاف» بمصطلح «الإبادة الجماعية»). وهو هنا ـ أقصِد شيكلي ـ يُكرر الأسطوانة الصهيونية المؤسطرة بأنه: (لا يُمكن وصف أي جريمة حرب بأنها «إبادة جماعية», غير تلك التي إرتكبها «النازي الألماني» بحق اليهود, في الحرب العالمية الثانية). لهذا على سبيل المثال: «لا و(لن) تعترِف إسرائيل, بإبادة «الأرمن» العام/ 2015 على يد القوات العثمانية. كذلك الحال «عدم إعتراف» الكيان الصهيوني بالإبادة الجماعية في «رواندا», التي ارتكبتها «قبيلة الهوتو/الأقلِيّة» بحق «قبيلة التوتسي/الأغلبية», منذ 7 نيسان/ 1994 حتى شهر حزيران من العام ذاته, حيث وصل عدد الضحايا إلى نحو (800 الف) نسمة, إذ وُصِفت المذابح التي شهِدتها رواندا قبل ثلاثين عاماً, بأنها «أكبر إبادة جماعية في إفريقيا في العصر الحديث».
حملة التشهير التي تشنتها الدوائر الصهيونية داخل الكيان, وخصوصاً خارجه على قداسة البابا فرنسيس, لم تُسكِته أو تدفعه للإعتذار أو التراجُع, بل مضى يصدح بالحق مُندِّداً بمقارفات وجرائم وارتكابات العدو الفاشي, إذ ندّد في خطابه «السنوي/ بمناسبة عيد الميلاد» في الفاتيكان قبل أربعة أيام (السبت20/12/2024), بالغارات الجوية التي يشنها العدو على قطاع, قائلاً: «بالأمس، جرى قصف الأطفال... هذه وحشية. هذه ليست حرباً. أردت أن أقول ذلك ـ أضافَ قداسته ـ لأنه يَمسّ القلب». رغم «الإنتقادات» التي وجهًها له الوزيرالعنصري/شيكلي, بعد دعوة البابا إلى دراسة «ما إذا كانت» الحرب على قطاع غزة, تُشكِل إبادة جماعية للفلسطينيين. حيث سارعت خارجية العدو في بيان, إلى وصف «تصريحات البابا بأنها (مُخيِّبة للآمال) بشكل خاص», وأنها «مُنفصلة عن السياق الحقيقي والواقعي, لحرب إسرائيل ضد (الإرهاب الجِهادي), وهي أضاف البيان «حرب مُتعددة الجبهات فُرضت عليها منذ7/أكتوبر»، مُضيفاً: «كفى اتّباع معايير مُزدوجة, والتصويب على الدولة اليهودية وشعبها».
في السطرالأخير.. آلة الدعاية الصهيوأميركية داخل الكيان وخصوصاً خارجه, باتت تتهِم قداسة البابا «عَلناً», بأنه «مُعادٍ للساميّة», وبأنه ـ وهذا هو الأهم ـ «تنكّرِ» لوثيقة المجمع الفاتيكاني التي صدرت في العام/1965, وبالتالي ـ وِفقَ الوثيقة ذاتها ـ («برّأت» اليهود من «قتل» المسيح)... عليه السلام.