شغلت قضية النهضة العربية او اشكالية التقدم والتأخر ومازالت تشغل اهتمام المفكرين والسياسيين العرب منذ مطلع القرن الفائت وحتى اليوم وتباينت أطروحاتهم حول الكيفية التي يمكن من خلالها الخروج من حالة الركود والجمود والتخلف الحضاري التي يعاني منها العالم العربي في شتى الميادين. فتيارات الإسلام السياسي ترى أن سبب التأخر هو عدم تطبيق الشريعة الاسلامية وأحكامها، فالإسلام هو الحل وأن السير على نهج السلف وبخاصة فترة صدر الاسلام هو المخرج مما نعانيه من تأخر وركود حضاري وانه كما قال الامام مالك لا يصلح أمر هذه الأمة الا (بما) أي "بالذي " صلح به أولها.
ولهذه الــ (بما/الذي ) كما يرى الدكتور محمد عابد الجابري معنيان، الأول معنى ظاهري وهو أن صلاح الامة كان بأتباع النهج الاسلامي، غير أن هناك معنى خفيّا مسكوت عنه لايقل أهمية عن المعنى الظاهري للعبارة وهذا المعنى متضمن في حرف الــ( ما/الذي ) أي ان صلاح هذه الامة في الماضي، بالأضافة الى اتباعها النهج الاسلامي، كان بزوال الــ(ما أو الذين ) أي بزوال امبراطوريتي الروم وفارس كعوائق في وجه النهوض والتقدم الحضاري الاسلامي، وان صلاح الامة الحالي لن يكون الا بمثل ذلك، أي بزوال هيمنة الدول الغربية المهيمنة على العالم التي تعيق حاليا نهضة الامة كما كانت دولتا الروم والفرس تقفان عائقا امام نهضة الامة في صدر الأسلام. وهذا الرأي تؤكد صحته الهيمنة الغربية التي منعت ومازالت تمنع قيام كيان سياسي عربي أو اسلامي موحّد في هذه المنطقة الحساسة من الناحية الجيوبوليتيكية من العالم لاعتبارات كثيرة، منها تاريخية ومنها سياسية ومنها اقتصادية،ولذا فما دامت هذه الدول قائمة وقوية، فان أي جهد حقيقي يبذل من أجل تحقيق النهضة او الوحدة او التقدم ستسارع تلك الدول الى ضربه وأجهاضة لأنه يهدد كُلًّاً من مصالحها في المنطقة ووجود الكيان الصهوني حارسها الأمين على تلك المصالح ومثال ذلك ما حصل مع جميع المحاولات التي أطلقنا عليها مجازا بالمشاريع النهضوية والتحررية منذ مشروع محمد علي باشا والشريف الحسين بن علي وعبدالناصر وصدام حسين وغيرهم.ولذلك فان غياب هذه الدول ــ أي الغربية على وجه الخصوص ــ عن مسرح السياسة العالمية هو الشرط الضروي واللازم لنهضة العرب والمسلمين وتقدمهم!
أما أصحاب الاتجاه الليبرالي أوالعلماني او المدني والذين تسميهم تيارات الاسلام السياسي بـ ( التغريبيين ) فيرون أن النهضة والحداثة والتقدم لا يمكن أن تكون الا بأ تباع وتقليد النهج الذي سارت عليه الدول الغربية المتقدمة والمتمثل بتحييد الدين عن السياسة والتركيز على الامور الدنيوية والأخذ بالنهج العلمي في الحياة والسعي لامتلاك ناصية التكنولوجيا التي نقلت تلك الدول من مهاد التخلف الى ما هي عليه اليوم من تقدم مذهل في كافة الميادين هذ اضافة الى الاخذ بالنظام الديمقراطي وأشاعة الحريات العامة والخاصة وحقوق الانسان واحترام خصوصيات الافراد والجماعات والتعامل مع المواطنين على اساس المواطنة بغض النظر عن المعتقد والعرق والطائفة وغيرها. فالأساس هو المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وان اساس المفاضلة هو العمل والانجاز والأخلاص للوطن والدفاع عنه. لكن هذا النموذج الغربي للحكم قد حمل الينا في آن واحد ـــ حسب رأي الدكتور الجابري ـــ الحرية والقمع في آن واحد أي حمل الينا الأيديولوجيا الليبرالية والتدخل الاستعماري في آن واحد، ومن هنا موقف العرب المزدوج من الغرب المتمثل بالاعجاب بنظمه وديمقراطيته وفي نفس الوقت الكره لممارساته الاستعمارية وقهره للشعوب ونهب خيراتها وأفقارها. ولذلك يعاني العربي من حالة التناقض الوجداني حيال هذا الأمر فان هو أخذ بالجانب الايجابي من الحضارة الاوروبية الغربية المعاصرة فانه يتطلب منه السكوت عن الجانب المكروه لهذا النموذج وهو التدخل الاستعماري الذي يعيق مشروع النهضة وهذا غير ممكن لان الموقف الصحيح هو فضحه ومقاومته.