وأنت تصعد شمالا في بلدنا تدهشك القرى المزروعة على جنبات الطرق ، والمتصلة عمرانيا وبخيوط من دفء ومحبة ، يريح قلبك موارس الزيتون في بني كنانة والكورة والوسطية ،ويدهشك سهل حوران الغني بالقمح والطيب ، وتفرحك الحواكير المحيطة بالبيوت الطيبة، ترافقك في رحلتك مساحات من الخضرة والأمل ، تمشي معها حتى تطل على قرى الشفا الغافية على أكتاف الغور... كما في الشمال، هناك في الجنوب قرى وبوادي من طيب وهيل وفروسية ، وتشبه العالوك وسنديانها وغريسا وبلعما ، وكل قرانا المنثورة على صدر الوطن ، الممتد حبّا من الوريد للوريد " كالوشم في ظاهر اليد".
كنت أتمنى أن أرى هذا الجمال يترجم في أغانينا الأردنية، وفي قصائد شعرائنا، وربما عمان إحتلت الإهتمام الأول في الأغاني الوطنية ، وهنا لا أقصد تلك الأغنيات الموجهة رسميا ، إنما أتكلم عن أغاني توثق المكان الأردني في موروثنا الشعبي، أقول ذلك ونحن نستمع لأغاني فيروز حيث تصادفك أسماء المدن والقرى اللبنانية ، ويأخذك جوزيف حرب وطلال حيدر وهما من شعراء المحكية اللذين كتبا اغلب أغانيها ، ومن خلالهما ومن صوت فيروز سافرنا إلى تلك الأماكن ولم نكن نعرفها ،ولكن رسمناها مع كلماتهم في خيالنا ، وتذوقنا عذوبتها مع قهوتنا الصباحية ، مرورا بجسر اللوزية وبعلبك وطريق النحل وتراب الجنوب وشآم.
عندما تستمع لكلمات الأغاني هي بإختصار قصص محكية .. غاب أصحابها وحضرت التفاصيل التي لم تشيخ أمام الزمان .. فيروز غنت للقناديل وضوّ الليل، وغنت للمراسيل وزهر البيلسان، وعن الغيمة العتيقة والأبواب، وغنت لنبع المي والعشب الداشر على الحيطان ، وعن المكاتيب وطير الحمام ، غنت عن أهل الهوى ونجوم الليل ، غنت للأسامي والعيون اللوزية والكتب المنسية، صوت فيروز هو ذاكرة لجيلنا ، وللأشياء التي إستوطنت في أرواحنا، وعلقتنا بخيوط ما بين المكان والعطر والموسيقى ، أغاني فيروز لا تشيخ ولا نمل من تكرار صوتها وبالمقابل تروي حكاية الأرض والإنسان.
ما أحوجنا أن نطور أغنيتنا المحلية لتعكس هويتنا الأردنية النابعة من موروث القرى وروح البداوة ، وأعرف أن هناك من حاول أن يعيد الألق لها أمثال الشعراء : رشيد زيد الكيلاني وحسني فريز، وسليمان المشيني وحيدر محمود، وحديثا حبيب الزيودي ونايف أبو عبيد وغيرهم، ومن الفنانين الذين إرتبطت الذاكرة بهم توفيق النمري وجميل وسلوى العاص، واسماعيل خضر ، ومحمد وهيب، وروحي شاهين، وقبلهم سميرة توفيق وميسون الصناع وحديثا فارس عوض وعمر العبداللات ومتعب الصقار.
إنتبهت الدولة الأردنية مبكرا للأغنية المحلية، وقد سمعنا وقرأنا أن حابس المجالي ووصفي التل وصلاح أبو زيد ، كانوا يشرفون شخصيا على كتابة تلك الأغنيات، وحديثا لمسنا إهتمام عبدالرؤوف الروابدة وفيصل الفايز ، لما فيها من الأهمية وإرتباطها بالمشروع الوطني للدولة، والهوية الثقافية المميزة.
أعتقد أن إنتاج أغنية محلية واحدة مليئة بالقيم الطيبة للأردنيين ، من فروسية وشهادة وعسكرية وحرية وطيب وكرم وتعايش ، هي أفضل من مئة حزب سياسي، أو وزارة تنمية سياسية وشباب ، أو مبادرات وطنية بلا معنى ، وفي ظل إنتاج ثقافي وفني هزيل، ومتعالي على المجتمع ولا يشبهه، ويلاحق الربح التجاري هدفا له ، الأغنية المحلية المكونة من كلمات أصيلة وبسيطة، ولحن عذب متكئ على موروث البدو والفلاحين ، هي مفتاح ثقافتنا وهي تختصر رسالة الدولة الأردنية إن كان لها مشروع ثقافي تدافع عنه في ظل هذا الظلام والجهل والخراب الذي يزحف إلينا ويقترب من أسوارنا ، ويهدد عيشنا المشترك وربما وجودنا.