مصون شقير
في عودة للبيان الوزاري الذي ألقاه رئيس الوزراء عمر الرزاز أمام مجلس النواب بالجلسة المخصصة للحصول على الثقة النيابية، أشار الرزاز وبشكل واضح إلى أن الحكومة ستعمل على إطلاق مشروع نهضة وطني كترجمة لما ورد بكتاب التكليف السامي، لكن وبمراجعة الوثيقة التي صدرت عن الحكومة بهذا الخصوص فإننا نجد بأنها قد نُشرت تحت عنوان "أولويات عمل الحكومة" وتتألف كما ورد بمضمونها من 3 محاور: دولة القانون ودولة الإنتاج ودولة التكافل، وتمت الإشارة بمقدمتها الى أن الحكومة تطلق مشروع نهضة وطنيا شاملا، وأن هذه الوثيقة تمثل خطوة جديدة على طريق مشروع النهضة.
وأياً كانت التسميات فإن الوثيقة التي بين أيدينا لا ترقى لأن تكون مُدخلاً إلى مشروع نهضوي وطني شامل، أو خطوة كافية بهذا الاتجاه، ذلك أن جوهر المشروع النهضوي هو إطلاق إمكانات الإنسان وتفجير طاقاته بغية تحقيق الحرية والمساواة والعدالة والأمن والتنمية والتحرر من التبعية للقوى الخارجية، وهذا يتطلب ابتداءً إصلاح منظومة القيم والأفكار وذلك من خلال إطلاق مشروع للتجديد الحضاري يهدف إلى تجديد المحتوى الروحي والأخلاقي والفكري للأفراد، والذي يتراكم على نحوٍ معيّن بحيث يصل إلى قوى المجتمع كافة، فيبث القوة بأوصالها لتغدو قادرة على تنظيم وتطوير حياتها وتسخير الموارد المتاحة لخدمتها لتجاوز حالة التردي والتخلف التي تعيشها.
كما ويتطلب وعلى نحو متصل وموازٍ تقديم مشروع ثقافي يتصف بالشمول والترابط، يزوِّد بالرؤى ويمثِّل المَعين المعرفي للتوجهات اللازمة لبناء القرار السياسي والاقتصادي، وهو إلى جانب ذلك يمثل الصندوق الزاخر بالأفكار المحفزّة والتي من خلالها تستمد هذه القرارات شرعيتها وأوجه تسويقها بين أفراد الشعب، كما ويقدم الإجابات الموضوعية عن الأسئلة الملِّحة والمتعلقة بالهوية الوطنية، إذ وبدون بناء هوية وطنية جامعة ومتجانسة وعقلانية فإنه من المتعذر حمل المشروع النهضوي وتحقيق أهدافه.
وعلى ذلك فإن الإطار النظري والمفاهيمي عند الاشتغال على مكونات المشروع النهضوي يتقدم على الإطار الإجرائي أو يتساوق معه على أقل تقدير .
وبنظرة فاحصة لما ورد بوثيقة الحكومة نجد بأنها خالية مما سبق، كما جاءت معالجتها للمشروع الثقافي بشكل مجزوء ومبتور، إذ حصرته بمفهوم الثقافة الوطنية، وجعلت الحديث عن المشروع الثقافي الشامل مسألة لاحقة وضمن جدول زمني متراخٍ، علماً بأن المشروع الثقافي جزء لا يتجزأ من أي مشروع نهضوي يولد معه ومن رحم واحد.
والأغرب من ذلك فإن الحكومة وضعت مؤشرات محددة لقياس الإنجاز في بند الثقافة الوطنية وتنمية المواطنة الفاعلة ليست ذات صلة بجوهر المشروع الثقافي على النحو المأمول أو حتى بجوهر الثقافة الوطنية كما ورد بالوثيقة، حيث حددتها بإجراءات روتينية ليست ذات دلالة.
وإذا كان على أي مشروع نهضوي تلبية توْق الإنسان إلى الحرية والمساواة والعدالة، فإن دولة القانون يجب أن تحمي هذه الحقوق، ومقتضى هذه الحماية هو تنظيمها لهذه الحقوق وليس تقييدها خلافا لمرامي ومقاصد النصوص الدستورية التي تحمي الحقوق والحريات الأساسية، وهي المسألة التي كان ينبغي معالجتها بنطاق محور دولة القانون. ومن جهة أخرى فإن تفعيل دولة القانون والسهر على حماية هذه الحقوق والحريات يتطلب ممارسة الحكومة لولايتها العامة بشكل كامل غير مجزوء إعمالاً لنص المادة (45) من الدستور، وبالتالي كان من المناسب إدراج مسألة الولاية العامة كإحدى أدوات ومؤشرات قياس مدى التزام الحكومة بالإجراءات المتعلقة بتنفيذ محور دولة القانون.
وأما مسألة التنمية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، والتي تمت محاولة معالجتها ضمن محوري دولة الإنتاج ودولة التكافل، فإنه وانسجاماً مع نفس المنطلقات فقد كان المطلوب ابتداءً تحديد هوية اقتصادنا الوطني وتحديد دور كل من الدولة والقطاع الخاص في النشاط الاقتصادي ومن ثم اشتقاق سياسات بنيوية تهدف إلى إزالة الاختلالات، وتطوير هياكل الإنتاج، ورفع معدلات التشغيل، وزيادة نسب النمو، والتوزيع العادل للثروة بهدف تخفيض نسب الفقر، وبخاصة في ضوء الاعتماد على الدعم الاقتصادي الخارجي والذي يُقيِّد القرار الاقتصادي الوطني وكذلك الشُحّ الشديد في الموارد الطبيعية، وإن الاشتغال على هذه الأهداف بصورة منهجية وعلمية من المفترض أن يجنب خزينة الدولة أعباءً مالية إضافية من مثل ما ورد في المحور الخاص بدولة التكافل الذي يهدف في جوهره إلى إدخال (55) ألف أسرة مستحقة جديدة إلى دائرة الانتفاع من صندوق المعونة الوطنية مع نهاية العام 2020، وهو هدف كان من الممكن إيجاد بدائل له تتصل بتأهيل أفراد هذه الأسر وإدخالهم إلى سوق العمل .
وفيما يتصل بسعي الإنسان إلى التمتع بالأمن على ترابه الوطني فإنه لا يستقيم أن يتم تجاهل أي جهد لإنجاز مشروع نهضوي - وبخاصة في هذه المرحلة العصيبة من حياة شعبنا وأمتنا العربية - تقديم معالجة معمقّة ومفصّلة تهدف إلى بناء منظومة أمن وطني شامل في مواجهة أخطار داخلية تتمثل في ارتفاع معدلات الجريمة وزيادة حالات الانتحار وانتشار أفكار التطرف، وكذلك أخطار خارجية تتمثل في اضطرابات إقليمية حادة على حدودنا، وتآكل في منظومة الأمن القومي العربي، وشهوة استعمارية توسعية للاحتلال الإسرائيلي مع ما يصاحبها من صفقات تبرم في الخفاء من جهات خارجية تُصيب صلب المصالح الأردنية ومفهوم الأمن الوطني، وهذه الاعتبارات لا تجد ما يغطيها في الفقرة الواردة على استحياء في المبادئ التوجيهية لأولويات عمل الحكومة المتعلقة بضمان الأمن والاستقرار للوطن والمواطن.
يضاف إلى ذلك أن خطوات إنجاز المشروع النهضوي الوطني جهد تشاركي أساسا، تطرح فيه الحكومة والقوى المجتمعية المدنية المؤسسية منها والفردية تصوراتها حول هذا المشروع، ليتم التوصل لاحقا إلى صيغة توافقية تلبي طموحات الشعب وبنفس الوقت تحمل إمكانيات التنفيذ. وعلى ذلك فإنه ليس من المنطقي أن يتم إعداد هذه الوثيقة ويتم إقرارها من الحكومة وتخصيص النفقات اللازمة لها في الموازنة، ثم تطرح بعد ذلك للنقاش مع القوى المجتمعية الأخرى، فهذا التصور يمثَّل حملة تسويق للوثيقة وليس مشاركة في صنعها.
وأخيرا نقول إنه إذا كان كتاب التكليف السامي قد وجّه رئيس الحكومة إلى إعداد مشروع نهضة وطني مع التأكيد على بعض الأولويات التي ينبغي أخدها بعين الاعتبار، فإن ذلك - وبدون الإجحاف بالجهود المبذولة والتي هي محل تقدير - كان يقتضي التصدِّي لهذه المهمّة بمزيد من العمق والكثير من الخيال والإبداع، وباستخدام منهج علمي منظم يحقق متطلبات صياغة مشروع نهضة وطني بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح. أما وأنها لم تفعل فقد كان على الحكومة أن تنحو منحىً واقعياً في تسميتها وتوصيفها لهذه الوثيقة بحيث تطلق عليها "برنامج عمل حكومي" - وبمراعاة باقي خطط عمل وبرامج الوزارات والمؤسسات الحكومية - أسوةً بحكومة المغرب التي وضعت في وقت سابق وثيقة مشابهة أسمتها "برنامج عمل حكومي".