أبتليت الأمة منذ عقود بظاهرة التطرف الديني والعقائدي والارهاب الفكري وما نتج عن ذلك من تكفير وتفجير وتبرير استباحة دماء الابرياء وممتلكاتهم بذريعة الخروج من الملة بعد أن نصبوا أنفسهم خلفاء الله في أرض الله، ولا أريد هنا أن أتحدث عن حرمة دماء المسلمين وممتلكاتهم وأعراضهم الثابتة في الكتاب والسنة إذ أنه لا يجوز تكفير المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله بأي حال من الاحوال، إنما أريد أن أتحدث عن الأسباب أدت الى ولوج الشباب في هذا المسلك المغلوط وإمكانات الخروج من هذه المعضلة التي أهلكت الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.
لقد كانت الأمة الاسلامية أمة وادعة مسالمة على مر العصور فما الذي جرى لها وما الذي أصابها وأوصلها الى هذا المنزلق الخطير حتى نكصت على أعقابها وأصبحت تسير في ذيل القافلة..
باعتقادي أن هناك أسبابا اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وفكرية أدت الى وقوع فئات الشباب ضحية في شبك المنظرين المتطرفين والتكفريين في ضوء إصابة هؤلاء الشباب بمشاعر اليأس والاحباط جراء استشراء مشاكل الفقر والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية واستشراء الفساد وانكشافه على الملأ.
علينا أن ندرك أن أصحاب الفكر المتطرف ليسوا بعيدين عنا.. بل إنهم من أبناء جلدتنا ويعيشون في مجتمعنا، والمشكلة أنهم أوجدوا لانفسهم المسوغ والذريعة لتبني نهج التطرف والتكفير والتفجير واستباحة دماء المسلمين وممتلكاتهم وأعراضهم وخاصة في ضوء تسليط الوكالات الاخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي الاضواء على كثير من قضايا الفساد والتجاوزات المالية والادارية ولجوء الحكومات لتعويض هذه الأموال المنهوبة من خلال فرض ضرائب جديدة على المواطنين الذين ربما لا يجدون قوت يومهم ولا يجدون فرص عمل بالرغم من حصولهم على درجات جامعية عليا في مختلف التخصصات الاكاديمية والفنية والمهنية.
وأشير هنا الى الاخبار التي تناقلتها الوكالات الاخبارية في الفترة الاخيرة والتي أكدت استشراء الفساد في مفاصل القطاع العام والخاص بما أسهم في تأجيج المشاعر العدائية وحب الانتقام عند الناس، حيث نشرت تلك الوكالات أن أحد المسؤولين المتنفذين وضع يده على قطع أراض كانت مسجلة باسم الدولة الاردنية وقام ببيعها بمبالغ باهظة كما يقوم نفس المسؤول بتدريس جميع بناته على نفقة الدولة بمبالغ فلكية في الوقت الذي نقوم بتدريس أبنائنا في الجامعات على النظام الموازي، ناهيك عن الاختلاسات والفساد في قضايا الدخان والعطاءات والفوسفات وغيرها وربما يكون المخفي أعظم كما يقول المثل الشعبي.
وفي هذا المقام فإن أمانة المسؤولية تحتم على جميع المسؤولين على مختلف مستوياتهم أن يقتفوا أثر جلالة الملك.. وهو الذي أكد في مجلس الوزراء مؤخرا قائلا (نحن جادون في محاربة الفساد واجتثاثه من جذوره) وقال في لقائه الأخير مع الصحفيين (إحكوا ولا تخافوا)، وعلينا أن نعترف أن الشاب المؤهل أكاديميا ومهنيا وفنيا يصاب بصدمة بعد تخرجه من الجامعة ودخوله الى سوق العمل وبالتالي يصبح عاطلا عن العمل ولديه فراغ فكري كبير حيث تبادرالجماعات المتطرفة لتلقفه لسد هذا الفراغ الفكري بذرائع وشعارات براقة والدليل على ذلك أنه من النادر جدا أن نجد موظفا معيل لأسرة ينخرط في هذا الفكر المتطرف.
هذه التجاوزات وغيرها أدت الى تأجيج مشاعر المواطنين وخاصة فئات الشباب وكونت لديهم الاعتقاد بأن الحكومة ليست جادة في محاربة الفساد والمفسدين وكونت لديهم الاستعداد والقابلية للقيام بأي عمل إجرامي بإسم الدين وهو في الواقع لا يمت الى ديننا الحنيف بصلة.. لأن ديننا دين الاعتدال والوسطية والدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ندرك جيدا أن أتباع هذا الفكر يجيزون استباحة دماء الناس وسبي ممتلكاتهم على اعتبار أن هذا النهج هو جهاد في مواجهة تفشي الظلم والفساد والتفاوت الطبقي والمحسوبية والواسطة..الخ.
ولمعالجة هذا الواقع الأليم نحن بحاجة الى خطة وطنية شاملة ومستدامة لتطهير عقول الشباب من هذه الأفكار المتطرفة، بما يؤدي الى تصحيح معتقداتهم الفكرية المنحرفة وليس أن نواجه هذه الآفة باسلوب الفزعة أو الهبة الآنية وعلينا أن ندرك جيدا أن الحل الأمني لا يكفي إطلاقا، وبناء عليه أرى أنه يجب تشكيل لجنة وطنية عليا تضم ممثلين عن وزارات الأوقاف والداخلية والاعلام ومؤسسات المجتمع المدني للتعامل مع هذا الواقع ومعالجته، فدور الاوقاف يجب أن يتركز على الوعظ والارشاد والتوجيه الديني وتكثيف عقد الندوات الحوارية الهادفة وتخصيص خطب الجمعة لمواجهة الفكر التكفيري المتطرف بين الحين والحين.
وأعتقد أنه من المجدي أن يتم تشكيل هيئة للمناصحة والتوجيه للشباب الذين تم التغرير بهم، في الوقت الذي يجب أن تكثف وزارة الاعلام عقد اللقاءات الصحفية والندوات الحوارية مع العلماء والمفكرين حول سبل مواجهة تلك الافكار والتعامل معها والتركيز على قبول الرأي الآخر بالاستناد الى قوله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).
أما مؤسسات المجتمع فيتوجب دعمها لتتمكن من الاضطلاع بدورها لعقد ورش العمل واللقاءات الحوارية لاولياء الأمور وتحفيزهم لمراقبة ومتابعة سلوكيات أبنائهم من أية انحرافات فكرية أو عقائدية.
لكن الأهم من ذلك كله فإنه يتوجب على الحكومة أن تعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس وأن توفر ما لا يقل عن خمسين ألف فرصة عمل في المرحلة الاولى للعمل في الجهاز الحكومي والشركات العامة وعليها أن تعمل على استرداد الاموال المنهوبة لتمويل هذه الوظائف وأن تنآى بنفسها عن أسلوب تضييق الخناق على الناس بكثرة الضرائب لأن كثرة الضغط يولد الانفجاز كما تقول القاعدة الفيزيائية، والله الموفق والهادي الى سواء السبيل.