ماذا يجري في البلد؟ لا احد يعرف تماما، لكن الاسئلة تتناسل كل يوم دون ان يتطوع اي مسؤول بتقديم اي اجابة وافية.
لن اعيد طرح هذ الاسئلة في هذه الزاوية، لكنني اشعر ان ضمير الكاتب بداخلي يتململ، ليس فقط لان الصورة المثالية «المتخيلة» للكاتب في ذهن القارىء هي أنه يمثل «ضمير المجتمع»، ويتماهى مع قضاياه ومشكلاته، ويعبّر عنها بصدق وأمانة، وينحاز إليه مهما كانت الاضطرارات والاكراهات، وانما ايضا لان ما يحدث اصبح مأساويا وتراجيديا بامتياز.
لا اتحدث هنا عن «صفعة» الفساد الاخيرة التي اكتشفنا انها اكبر من كل توقعاتنا، تصوروا اننا كنا ننام ونصحو دون ان نرى المصانع والاراضى الواسعة التي استخدمت (لا ادري لماذا) وتمدد عليها الفاسدون، تصوروا ان هؤلاء ايضا كانوا بمثابة اشباح يتحركون ويتاجرون ويتهربون من دفع الضرائب دون ان نعرفهم، تصوروا اننا دفعنا من لقمة اطفالنا وخبزهم ومصاريف تعليمهم لكي نسد ديون بلدنا فيما كانت احدى حكوماتنا «تعفي» احد المخالفين من 150 مليون دينار.
لا اريد ان اتحدث ايضا عن نسخة الفساد الاخيرة في احدى جامعاتنا الرسمية، لكم ان تتصوروا فقط ان «وقاحة» الفساد اخترقت اسوار جامعاتنا ووصلت الى عصب تعليمنا، ولكم ان تتخيلوا ان «النهب» تجاوز حوزات السياسة وبازارات رجال البزنس، ووصل اخيرا الى الذين ائتمناهم على عقول ابنائنا ووضعنا بهم الثقة لتنشئتهم على الاخلاق الحميدة.
لا اريد ان اتحدث ايضا عن «ميليشيات» البلطجية؟ متى كان في مجتمعنا مثل هؤلاء الذين يجوبون الشوارع ويهددون من يفتح فمه بكلمة عن الفساد، متى كان لدينا مثل هؤلاء الذين يفرضون «الاتاوات» على التجار الصغار، ويسرحون ويمرحون دون ان يقبض عليهم احد.
ما وصل اليه مجتمعنا لم يكن مفاجئا الا للذين ما زالوا مصرين على انكار الحقيقة، فحين تغيب «السياسة» تحضر الفوضى، وحين تنحدر قيم المجتمع بفعل ما طرأ من ضغوطات وافساد للمجال العام، يتحول الناس الى مجموعات متناحرة تحركهم نوازع الانتقام من انفسهم ومن الآخرين، وحين تسد ابواب الحوار الجاد ويتلاشى الامل يهيمن منطق «الاستهانة» والاستعلاء ويختلط «اللامشروع» بالمشروع يفرز المجتمع اسوأ ما فيه، ويعبّر كل مواطن عما بداخله بطريقته الخاصة، ويحاول ان ينتزع حقوقه بيديه، تماما كما يحصل في العصور التي ضلت فيها المجتمعات عن ولادة فكرة الدولة والقانون واخلاقيات العيش المشترك وقيم العدالة والحرية التي تجعل الجميع يشعرون بالامن والاستقرار «والرضا» والقناعة.
ما نحصده اليوم من «خيبات» وما نراه من عنف على الارض والشاشات هو نتيجة طبيعية لما جرى من «عبث» في نواميسنا الوطنية.
السؤال الذي ما زال يحيرني هو: ماذا ننتظر بعد؟ هل سنبقى جالسين على مقاعد «المتفرجين» امام هذه «الحرائق» التي تشتعل وتتصاعد؟
اعترف بأنني عجزت تماما عن فهم اي اجابة اسمعها، سواء من المسؤولين او من الشارع او من النخب، وحده «صوت» الفوضى والارتباك يدلك على «اللغز» المحير الذي تورطنا فيه، او ان شئت على «المصيدة» التي وقعنا فيها جميعا.. من اوقعنا فيها يا ترى؟
ان اخشى ما اخشاه هو ان تمرّ علينا مثل هذه الاسئلة «بلا اكتراث» وبلا اجابات، وان تبقى ابصارنا معلقة «بأوهام»، او مفتوحة على قراءات مغشوشة، والاخطر من ذلك ان نصمّ آذاننا عن سماع اصوات الناس التي تحولت الى حرائق مشتعلة، وعن مخاضات الشارع التي «اختطفها» اشخاص مجهولون يشهرون اسلحتهم ضد انفسهم ومجتمعهم، ومع انني –وغيري- مللت من ازجاء النصائح الا ان ضميري غير مرتاح ابدا لرؤية هذا المشهد ولدي رجاء واحد للمسؤولين في بلادنا ان يستدركوا ما قد يفاجئنا من احداث بحلول مقنعة، ولدي دعاء ان يحمي الله بلدنا من كل مكروه وان يرشدنا للهدى والصواب.
الدستور