الهدوء المعهود الذي ميز عمان عبر تاريخها الحديث، تغير فجأة في أواخر أيار وتطور دراماتيكيا في مطلع حزيران. ففي المدينة التي يتحدث الناس فيها عن أمنياتهم ورغباتهم لأشهر وينهون نقاشهم بعبارة "اللي كاتبه ربك بيصير" يشهدون اليوم فصلا جديدا ومثيرا من تاريخ بلدهم. الأحداث الجديدة تأتي على إيقاع الاعتصامات والإضرابات التي تتوالد في أحياء وقرى ومدن المملكة. والحكومة تستقيل استجابة لرغبات الشارع الذي دعا بجدية وإخلاص الى وقف مسلسل الضرائب وسحب مشروع القانون الجديد، وعبر عن امتعاضه من سياسات الجباية والغطرسة التي يمارسها بعض أركان الحكومة التي دعوا الى إسقاطها.
الإضراب الذي دعا له النقباء كاستجابة لمشروع قانون ضريبة الدخل، أصبح الشرارة التي أشعلت عشرات الاحتجاجات على معادلات تسعير الطاقة وغيرها من الممارسات الحكومية التي لا يتفق معها المحتجون. المظاهرات الليلية التي عمت البلاد خلقت واقعا جديدا ما يزال غير واضح المعالم ولا التفاصيل. حتى اليوم لا أظن أن أحدا في السلطة التنفيذية أو التشريعية والإعلام قادر على تقديم نظرية تفسر بدقة وإقناع هبة الشارع الأردني وخروج الشباب والكهول والنساء وأحيانا الأطفال في أكثر من أربعين مدينة وبلدة وقرية وميدانا وحيا وانخراطهم في مسيرات ليلية بهتافات وشعارات متناغمة من دون التسبب في إضرار وتدمير الممتلكات والمرافق العامة كما كان يحدث إبان الربيع العربي.
في عمان تحول مركز الحراك الشعبي من المسجد الحسيني الكبير وساحة النخيل في وسط العاصمة الى الدوار الرابع في إشارة ضمنية الى أن الأوضاع التي تمر بها البلاد ليست صدفة ولا قدرا محتوما يقتضي أن يقابله الناس بالرضا والدعاء باللطف فيه، بل هو نتاج لتشريعات وسياسات وقرارات قام بها سياسيون فأغضبت الناس ودفعتهم للخروج مطالبين بإقالتهم ومحاسبتهم.
الإحساس بالضيم وسيطرة سيكولوجية الفرد المقهور أو الفرصة الضائعة، تسيطر على عقول وقلوب ولغة ومبررات المشاركين في الاحتجاجات وتفسر دوافعهم. الكثير من الشباب يتساءلون عن سبب استمرار عيش الأردن في أزمات مزمنة ولماذا بقي الأردن يواجه أبسط المشكلات المعيشية لعقود في الوقت الذي تتقدم فيه الكثير من البلدان التي لا تملك مقومات التقدم وبناء مشاريع نهضوية كالتي أنجزتها.
اليوم، وفي الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم نحو تحقيق المزيد من التقدم والازدهار، يرى البعض أن الأردن سيكون محظوظا اذا تجاوز سيل الأزمات المركبة التي ألقت بظلالها على اقتصاده وأدواره واستقراره وآمال الشعب الأردني والأجيال المقبلة في حياة كريمة آمنة.
الكثير من المتابعين عربيا وعالميا يرون تراجعا في المكانة التي تمتع بها الأردن إقليميا عبر عقود وفقدان للأدوار التي تولدت من تاريخ المنطقة والجغرافيا السياسية التي أكسبته ميزة نسبية أسهمت في تحقيق مكانة علمية وتنظيمية وتنموية وأمنية تبعث على التقدير والإعجاب.
المحيط العربي الذي طالما شكل المجال الحيوي والشريك الاقتصادي الثقافي السياسي للأردن، أصبح منشغلا اليوم بالصراعات والحروب الداخلية والإقليمية التي آثر الأردن أن لا يكون طرفا مباشرا فيها.
الصخب العماني الأردني الجديد يحتاج لمن يعيد له الهدوء والسكينة والثقة والأمل، والرئيس المكلف سيواجه في الأيام المقبلة مهمات صعبة ليس أقلها فك الاشتباك بين ما هو قومي وعالمي وما هو اقتصادي واجتماعي وما هو عربي ودولي وما هو قبلي ووطني. وأخيرا معادلة الرغبة والقانون. كل ما نتمناه أن ينجح الرئيس المكلف في اجتراح وصفة للتعاطي مع الواقع الأردني تفلح في الاستعارة من خلفية أسرته القومية وتبني على التعددية التي أصبحت ملمحا أردنيا وتزاوج بين "ديجاتلية" الشباب وحكمة التقاليد وعفوية البداوة وحسابات الحضر وتطلعات الأردنيين الى المخلص.
الغد