مدار الساعة - ابراهيم الزعبي - بيروت
شدني ذلك الكتاب المتكئ بين مجموعة من الكتب السياسية على احد أرفف مكتبة اعتدت أن أزورها في بيروت، ربما لأن صاحب الكتاب مناضل من وطني الاردن، مما يشعرك بنشوة عندما تجده بين صفوة المناضلين والكتاب السياسيين العرب، أو لربما أن مؤلف الكتاب سبق ان التقيته في خريف 1994 بمناسبة خروجه من زنازين السجون السورية - بقصد التهنئة - أي قبل ثلاثة وعشرين عاما ونصف العام وهي مدة تعادل المدة التي قضاها سجنا قسريا في ذلك البلد.
ضافي الجمعاني.. من الحزب الى السجن ( 1948 – 1994) ، هو عنوان الكتاب الذي اثرت ان أقتنيه، لأنني كنت على يقين ان اجد بين طياته ما سوف يثري ثقافتي الشخصية حول احداث ومفاصل تاريخية عاشتها المنطقة العربية، ما زال اللبس والغموض يعتريها بسبب تعدد الروايات حولها.
ما أثار اهتمامي بداية عند تصفح الكتاب.. ذاك الاهداء في المقدمة، والذي يزجيه المناضل شكرا لرفيقة دربه (وجدان) رحمها الله - التي رحلت عن عالمنا قبل اربعين يوما - لما عانت سنين عددا بسبب سلوكه هذا الطريق الوعر كما اسماه، ووجدان هي ابنة عمه سليمان الذي رباه وأحسن تربيته بعد أن تيتم صغيرا، رغم تكراره القول في كثير من المناسبات : لم أشعر يوما باليتم، بل كنت أشعر بالاهتمام.
ضافي الجمعاني ...ذلك البدوي الطيب .. الطالب الطموح.. الضابط العسكري.. البعثي المناضل.. المعتقل، ابن مأدبا .. ابن قبيلة بني حميدة (ذباحة الدول) قاهرة الحاميات التركية.. يتحدث عن نشاته باسهاب ليوصل للقارئ بأن ظروف الحياة هي من ترسم خطى الانسان.. فالبدوي الذي تتلمذ على يد "الكتاتيب" ثم في مدرسة المطران الارستقراطية، كان يطمح بمواصلة تعليمه الجامعي، لكن بوصلة الحظ انحرفت رغما عن ارادته لترسم له مسارا عسكريا لم يكن يستهويه يوما .
في المعسكر.. عسكر الجمعاني فكره نحو السياسة ... فكانت نكبة 1948 ... والموعد مع " تنظيم الضباط الأحرار" ، ثم لقاءه بالرفاق شاهر اليوسف ومحمود المعايطة وبطرس حمارنة.. من تيارين سياسيين مختلفين.. فاختار "البعث" على "القومي الاجتماعي السوري"، لتبدأ رحلة ضافي المناضل مع السجون والمعتقلات وتقلد المناصب في آن.
لقد عاصر الجمعاني أحداثاً اردنية مفصلية كشاهد ومؤثر.. منها تولي الملك حسين عرش البلاد، ومساعي إنشاء حلف بغداد. وعزل "كلوب" وتعريب الجيش ، ثم السماح بتشكيل الأحزاب وإجراء انتخابات نيابية .. وما حصل مع حكومة سليمان النابلسي واجبارها على الاستقالة، وتصدي "تنظيم الضباط" الذي كان هو عضوا فاعلا فيه للقرار، ويشير ان الهدف لم يكن الاطاحة بالنظام ، بل الضغط من اجل بقاء حكومة النابلسي ... وانتهاء الامر باعتقال أعضاء التنظيم ... وبحكم سياسي مدته عشر سنوات في " الجفر"... فكانت فكرة حفر الخندق للهرب والتي وئدت في مهدها.. ثم العفو والإفراج عن المعتقلين بعد ثلاثة أشهر من انفصال الوحدة بين مصر وسوريا، ولم يشمل العفو أعضاء الحزب الشيوعي المحكومين.
يستعرض الجمعاني الظروف التي سبقت وتلت نكسة حزيران 1967 ، وانقلابات "البعث" في العراق وسوريا.. وعودة البعثيين الاردنيين الى معتقل الجفر.. ثم الافراج عنهم بعد اضراب مفتوح عن الطعام ، والعودة من جديد الى عمله في مجلس الإعمار والذي كان تولاه إثر خروجه من تجربة الاعتقال الأولى .
لقد كان الجمعاني سياسيا قياديا... فالتحق بصفوف حركة 23 شباط، ليتولى أمانة سر قيادة قُطر الأردن لحزب البعث العربي الاشتراكي ـ قيادة سوريا ـ الى انتخابه عضوا في قيادة الحزب القومية بدمشق في المؤتمر القومي العاشر ومساهمته في تحالف حركة فتح والصاعقة .
تجربة ضافي الجمعاني مليئة بخبايا الأحداث التي كان هو شاهدا عليها ومؤثرا فيها خلال مراحل الكفاح الفلسطيني ، ودور حزب البعث في المقاومة والكفاح من أجل فلسطين، وخلافه مع الرئيس عبدالناصر. هو في الحقيقة صراع بين (الصاعقة) الجمعاني و(فتح) أبو عمار، فجذوة المقاومة من أجل التحرير لم تخبو يوما في وجدانه، ما يشكل ردا على كل من يتساءل: لماذا ابو موسى يرتدي الكوفية الفلسطينية وليس الشماغ الاحمر؟
في دمشق.. كان الجمعاني على موعد مع صراع من نوع آخر، صراع سلطة بين صلاح جديد وحافظ الاسد.. فكانت الحركة التصحيحية.. ووصل الأسد للسلطة، واعتقل الرفاق نورالدين الاتاسي، صلاح جديد، مصطفى رستم، حاكم الفايز، مجلي نصراوين وحسن الخطيب...
وعلى قاعدة (ان لم تكن معي فأنت ضدي) كلفت الجمعاني ثلاثة وعشرين عاما ونصف العام من عمره وعمر أسرته، ليخرج بعدها من سجن " المزة" في عام 1994، كهلا لم تثنه كهولته من فلاحة أرضه في الوالة والهيدان التي عشق ترابها.. كيف لا وهي صندوق ذكرياته ... وحال لسانه يقول منها بدأت واليها أعود.
وأخيرا ... يقول أبو موسى الأب: ان ما دفعني لكتابة مذكراتي، هو ذلك السؤال المليء باللوم لطفل افتقد اباه، وهو ابني الاصغر (سليمان) ابن الخمسة أعوام، حين زارني في سجن المزه بدمشق فقال : ماذا استفدت من كل ذلك وقد أمضيت عمرك في السجون؟ لتأتي الاجابة بعد سنين من خلال قناة الجزيرة في برنامج (زيارة خاصة) مع الاعلامي سامي كليب : "الوطن مستهدف بكل تاريخه وتراثه ... ويكفيني انني قمت بكل ما أستطيع لمقاومة هذا الشر الذي يحيط بنا.. وما عندي غير هيك".
Ibrahim.z1965@gmail.com