• عسكرنا... وسكرتيراتهم
• ولاء لا يقدر بثمن
• اختلالات لابد من إصلاحها
• أتهمونا بالعمالة فصاروا وزراء ونواباً
• الأردن وطن... أم شركة؟
هذه وعناوين أخرى تواردت إلى ذهني بعد أن همس في أذني زميل أثناء زيارة وفد جماعة عمان لحوارات المستقبل، إلى المنطقة العسكرية الشرقية، مستنكراً: أليس من الظلم أن لا يصل راتب بعض نشامى قواتنا المسلحة المرابطين على الحدود تحت أشعة الشمس الحارقة نهاراً، ولسع البرد القارس ليلاً إلى الأربعمئة دينار، بينما تتقاضى سكرتيرة، أو فتى غض الإيهاب يجلس كل منهما في مكتب مبرد صيفاً مدفئاً شتاءً في عمان، أضعاف ذلك، مع أن الكثيرين من أمثالهما، أعني السكرتيرة والفتى لا يقدم للوطن شيئاً، بينما يقدم الجندي حياته فداء للوطن، معرضاً للخطر في كل لحظة؟.
سؤال حرك الكثير من الذكريات التي تؤكد أن في بلدنا اختلالات لابد من إصلاحها، ومن هذه الذكريات أنه ذات صباح كان علي أن أغادر بيروت على جناح السرعة، قبل أن تتمكن مني مجموعة مكلفة بتنفيذ حكم الإعدام، الذي أصدره بحقي فصيل غضب من مقالاتي التي تدافع عن الأردن، ولم تفلح كل الاتصالات التي بُذلت لتأمين عودتي إلى بيروت لتقديم امتحاناتي، بعد أن أكد قائد بارز في المقاومة أنه لا يضمن سلامتي، ومع ذلك فإن مواقفي لم تتغير ولم أزعم يوماً أنني مشروع شهيد، وأنني يجب أن أتقاضى أجور دفاعي عن وطني.
تلك واحدة أما الثانية. فهي عندما دخل المرحوم نعيم قعدان الشهير «بالمختار نعيم»، والذي كان مديراً عاماً لمؤسسة رعاية أسر الشهداء، إلى مكاتب جريدة اللواء التي أعتز أنها كانت محل حب واحترام قواتنا المسلحة بسبب مواقفها في الدفاع عن الأردن، وتُصنف بأنها صحيفة «الجيش العربي»كجريدة الأقصى.
كانت ملامح «المختار نعيم» تحمل الكثير من الألم، لأنه تلقى تكليفاً بجمع معلومات عني، بعد أن أفردت أحدى الإذاعات التي كانت متخصصة بشتم الأردن إحدى تعليقاتها السياسية للحديث عن تاريخي الذي يمتد عشرات السنين في العمالة، علماً بأنني في تلك الأيام كنت في بداية العشرينات من عمري، لكن يبدو أن تأثير مقالاتي جعلت كاتب التعليق يتخيل أنني رجل هرم أمضى عشرات السنين في العمالة، وهي تهمة كانت تلصق بكل من ينحاز إلى الأردن، ورغم ذلك لم يدخل الغرور إلى نفسي، ولم أشعر أنني صاحب فضل على الأردن يجب أن أشغل بسببه منصباً.
أما الثالثة فإنه في ذات معركة من معارك الأردن السياسية خرجت جريدة السياسة الكويتية بعنوان لمقال على عرض صفحتها يحمل كلمتان هما « الكتائبيون الأردنيون»، قالت فيه أنني رأس حربة لتيار أردني متعصب، نسجت حوله الكثير من الأكاذيب التي تعبر عن حقد على كل من ينحاز إلى الأردن، يوم كان الإنحياز إلى الأردن قبضاً على الجمر.
طويلة هي قائمة المقالات التي دافعت فيها عن وطني، ومثلها كتبي، ففي عام 1978 صدر كتابي « الأردن محاولة للفهم» الذي قيل يومها أنه أسس لخط جديد في كتابة التاريخ السياسي للأردن، وإبراز دور الشعب الأردني في خدمة قضايا أمته العربية، وتقديمها على قضاياه الوطنية. أما في كتابي «الأردنيون والثورة العربية الكبرى»، فقد برهنت أن الأردنيين هم الذين أعطوا للثورة بعدها القومي وزخمها الشعبي، ولولا انحياز القبائل الأردنية والضباط الأردنيين العاملين في الجيش العثماني إليها لظلت مجرد عصيان محصور في أجزاء من الحجاز.
وفي كتابي « الأردنيون وفلسطين» قلت إن الأردنيين هم أول من حمل السلاح في وجه العصابات الصهيونية وأول من قدم الشهداء في فلسطين، كما أنهم تصدوا مبكراً للمقارعة السياسية مع المشروع الصهيوني وأبرز تجليات تلك المقارعة «معاهدة أم قيس».
كثيرة هي المعارك التي خضتها دفاعاً عن وطني، ومع ذلك فإني لم أشعر أن لأبنائي وبناتي أفضلية على غيرهم، ولم أغضب لأنهم درسوا على نفقتي الخاصة، من مرحلة الحضانة إلى أن تخرجوا من الجامعات، ولم يعمل أحدهم أو إحداهن في الحكومة، ولم أغضب، ولم أحمل وطني منة، لأنني أنحزت إليه في كل معاركه، بل إنني لم أحقد على وطني عندما صار الذين كانوا يقفون في الخندق الآخر، ويمزقون جواز السفر الأردني، ويحرقون العلم الأردني، ويدعون إلى إسقاط النظام الأردني وزراء ونواب وأعيان في النظام الذي طالما هاجمونا بتهمة أننا عملائه، فكأننا زرعنا ليحصد غيرنا وقاتلنا ليفوزوا هم بالغنائم، وهذا بالضبط ما يفعله جنودنا هذه الأيام، وهم يرابطون على حدود الوطن لحمايته، بينما يتمتع بعض المتنعمين بخيراته، وهم يعملون على نهشه وتوهين عزيمته ونشر الأكاذيب حوله، بزعم أنها تحليلات، وهذا هو أساس الاختلال في معادلتنا الوطنية، الذي ولد اختلالاً في سلم الرواتب بين جنودنا وسكرتيراتهم، وبين مفهومنا للعلاقة مع الوطن ومفهومهم لهذه العلاقة، فالفرق بيننا وبينهم أننا نؤمن بأن الأردن وطن نهائي ندافع عنه بروح الجندية، أما هم فيعتبرون الأردن مجرد شركة تربطهم بها أرباحهم فقط، فإذا لاح في الأفق احتمال خسارة باعوها، بخلاف المنتمي للوطن فمن المستحيل أن يمن على وطنه بولائه، وأن يطالبه بثمن هذا الولاء فالولاء لا يقدر بثمن، ومن يطلب ثمن ولائه فأنه يبيعه لمن يدفع أكثر، وعسكرنا ليسوا من هؤلاء.
Bilal.tall@yahoo.com
الرأي