بقلم: الدكتور خلف الطاهات
قَدَر المملكة الأردنية الهاشمية الجغرافي ان تقبع في منطقة لم تشهد هدوءا منذ بدايات القرن المنصرم، حيث الحروب الطاحنة والاستقطابات السياسية الاقليمية والدولية ضمن تحالفات مصلحية على اقتصاديات الطاقة والثروة المعدنية، ملفات ساخنة وحركات سياسية واجتماعية طوت دولاً، وانظمة مستبدة انهارت، وحكومات سادت لعقود طويلة غابت، صفقات من تحت الطاولة تقصّدَت تهميش دور الاردن التاريخي نحو المقدسات خسرت، ومؤمرات خبيثة حِيكَت هنا وهناك راهنت على وزن صفري للاردن في الإقليم فشلت واندثرت!!
تجاوز الأردن كل تلك المنعطفات الحرجة بثقة بفضل يقظة صانع القرار الاردني الذي يستشرف المستقبل ويتخذ القرار المناسب باللحظة المناسبة، والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة كيف تمكنت القيادة الهاشمية من الحفاظ والدفاع عن المصالح العليا للدولة الاردنية في وقت ظن البعض ان الاردن يقع ضمن دائرة التاثير والتبعية، وما قرارات الدولة الاردنية المتعلقة بإنهاء ملحقي الباقورة والغمر وعدم الموافقة على تجديدها، الى جانب قرار الدبلوماسية الاردنية المتوازن والمتعلق بالازمة الخليجية الاخيرة يعكس حجم النضج وبعد نظر صانع القرار السياسي الاردني، وهي مجرد امثلة من عشرات القرارات الوازنة التي مارست الدولة الاردنية سيادتها بكل معنى الكلمة.
حقق المطبخ السياسي الأردني طيلة السنوات الماضية انتصارات كثيرة بعضها غير معلنة ولكنها مرصودة بدقة لدى المتابعين والمحللين، وربما كان يمكن لهذه الانتصارات ان تكون اكثر حضورا وفاعلية على المشهد الاقليمي والدولي لو وجدت جهود جلالة الملك والذي يقود السياسة الخارجية الاردنية بذكاء وحكمة وشجاعة، اسنادا حقيقا فاعلا ومؤثرا ضمن منظومة اعلامية "مؤسسسية" تتعامل مع الدولة ومواقفها كاسترايجية ورسالة وموقف، لا فقط تتعاطى مع هذه الجهود على مستوى خبر بريء يبث هنا فينتهي تاثيره بإنتهاء طباعته ونشره!!
بعض دول المنطقة التي نتابع سجلها في ارتكاب جرائم ضد الانسانية وقمع الحريات وغياب التعددية السياسية وانعدام مفاهيم تعايش الاديان وحكم الحزب الواحد، تنظر الى التجربة الأردنية بعين الخطر نظرا لما تشكله التجربة الأردنية من انموذج معتدل في الديمقراطية والاصلاح واحترام الحريات العامة والمشاركة السياسية والقيادة المستامحة والمتصالحه مع شعبها، ناهيك عن الاستقرار السياسي والامني الذي ينعم به الاردن يشكل ذلك كله "احراجا" سياسيا لدول المنطقة، ولذلك تلجأ هذه الدول وبقوة للتعمية وتغطية ما علق من سواد بصورتها الى الاعلام وبما يمتلكه من قوة ناعمة في إعادة تشكيل مبرمج لصورتها امام الراي العام الداخلي والخارجي!
دولا متحضرة واخرى متقدمة ومنها ايضا دول قمعية لجأت لتوظيف الاعلام كقوة ناعمة ضمن ما يسمى باستراتيجية "الدبلوماسية العامة" Public Diplomacy، والبدايات كانت في الولايات المتحدة الامريكية خلال الحرب العالمية الثانية حينما انشات الادارة الامريكية مكتب المعلومات الحربية Office of War Information بمرسوم رئاسي سنة 1942 والذي كان مسؤولا عن اطلاق اذاعة صوت امريكا لاوروبا، وتوسعت الادارة الامريكية بعد ذلك بسنوات في توظيف استراتيجية الدبلوماسية الناعمة لتصبح جزءا مهما من الهيكل الاداري لابرز المؤسسات السيادية الامريكية ومنها وزارة الخارجية، وزارة الدفاع ،البيت الابيض، والوكالة الامريكية للتنمية الدولية USAID.
وفي عام 1999 وبعد احداث 11 ايلول عادت الادارة الامريكية وبقوة لتنفيذ الدبلوماسية الناعمة وومارستها للمساعدة في كسب حربها على الارهاب.
بشكل اساسي ترتكز مهام الدبلوماسية العامة في الإعلان عن سياسات الدولة وأولوياتها ونشاطاتها على وجه الدقة والسرعة، وان يصبح المكتب مصدرا رئيسيا للاخبار والمعلومات المتعلقة بالاردن، تعزيز قنوات الاتصال عبر التنسيق مع كافة الجهات والاطراف المعنية بالاعلام بالدولة، تسليط الضوء على أولويات ورؤية الدولة عن طريق التعاون مع الوزارات وأهم الهيئات وتقديم الدعم المعلوماتي للجهات الحكومية لضمان سرعة الرد على الاستفسارات الواردة من قبل الاعلاميين، بناء علاقات وثيقة مع مختلف وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية، وجماعات المصالح والمنظمات الدولية المعنية بالحريات والاعلام، الى جانب ايصال اولويات الجهات الحكومية وبرامجها ومشاريعها ومبادراتها، وايضا نقل صورة الاردن وتوضيح الحقائق اينما استدعى ذلك لقطع الطريق على ان تاخذ الاشاعة الممنهجة طريقها للنيل من سمعة الاردن ومنجزاته او الاساءة لمؤسساته واجهزته.
الاردن هذا الوقت ربما بحاجة ملحة لمثل هذا النوع من العمل الاعلامي ذات البعد الاستراتيجي، فالاردن المستهدف دوما وعبر العقود الماضية في مواقفه وثوابته بحاجة الى مطبخ اعلامي يفكر بطريقة استثنائية في إدارة الصورة العامة وقواعد الاشتباك الاعلامي لبناء راي عام يتناسب مع متغيرات الخطاب الاعلامي الحديث وادواته ومرتكزاته، ومن الظلم ان يبقى الاردن يعيش في حالة جلد ونكران وهوالقادر بما يمتلكه من خبرات وقدرات وامكانات فنية وتقنية وبشرية ان يقلب الطاولة على خصومه المتربصين بصورته ومواقفه وثوابته بكل كفاءة وثقة واقتدارة.
يمتلك الاردن مؤسسات اعلامية مختلفة الادوات في الانتاج، ومراكز بحوث ودراسات قادرة وبدقة على الرصد والاستطلاع، ودوائر صنع قرار اعلامي مطلة بعمق على تفاصيل المشهد الاعلامي ونقاط قوته وضعفه، ووحدات اعلامية متخصصة في رئاسة الوزراء ووزارات الدولة ومؤسساتها واجهزتها ومركزا لادارة الازمات لكنها للاسف تغرد منعزلة في اكثر الاحيان عن بعضها البعض، في احيان بسب غياب التنسيق تحت ضغط وتسارع الازمات كسيول البحر الميت وجائحة كورونا وبعض العمليات الارهابية، لذا نسمع احيانا روايات مختلفة لا بل متضاربة من اكثر من مصدر من نفس الجهة، وفي احيان نتعامل مع ردات فعل ما تفرضه اشاعات منصات التواصل الاجتماعي، والاخطر من ذلك هي تلك الروايات التي يروجها الاعلام الخارجي المأجور ويحاول ان يفرضها على الراي العام وتمس مواقف الدولة الاردنية من القضايا الراسخة وخاصة فلسطين ومقدساتها!!
في تصوري انه آن الاوان ان نتقدم بخطوة جديدة للتعامل باستراتيجية "الدبلوماسية العامة" في الاشتباك الاعلامي داخليا وخارجيا ضمن وحدة ادارية مؤسسية تتمتع باستقلالية عالية بادارتها وهيكلتها وتكون قادرة على تنفيذ مهامها ومسؤولياتها في حماية صورة الدولة الاردنية ومنجزاتها في عالم بات مستسلما لصناعة الاشاعات ويغرق في الروايات المضللة والمفبركة و المدسوسة!!