تناقلت بعض وسائل الإعلام، منذ أيام، ما جاء في نشرة إخبارية، بثها التلفزيون القطري، حول زيارة قام بها وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ولقائه بطريرك الطائفة المارونية اللبنانية، (الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي)، وذكرت أن مذيع النشرة قد لفظ كلمة (بطريرك) بصورة (بطريق) عدة مرات خلال قراءة الخبر، وادّعت أنه قد ارتكب بذلك خطأ، يصل إلى حد الخطيئة.
انتشر مقطع فيديو قراءة الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتناوله (الفيسبوكيون) بالسخرية، والتهكم، ومارسوا دور (الأساتذة) على مذيع النشرة، وأن عليه أن يعرف أن (البطريق) طائر... وأن رئيس الطائفة المارونية هو (بطريرك) وليس (بطريق)، يضاف إلى ذلك سيل متدفق من تعليقات ذات مستوى متدنٍ...
مما زاد من الهجمة على مذيع النشرة الإخبارية أن التلفزيون القطري قد نشر في تغريدة له عبر حسابه على (تويتر) اعتذارا عما وصفه " بالأخطاء غير المقبولة التي حدثت في إحدى النشرات أثناء قراءة المذيع لأسماء وألقاب عدد من الشخصيات اللبنانية، حيث تم قراءتها بطريقة غير صحيحة".
صحيح أن قراءة المذيع للخبر بدت مرتبكة، وتداخلت فيها حروف بعض الكلمات. ولعل هذا ناتج عن واحد من أمرين: فإما أن الخبر أدخل إلى النشرة خلال بثها، كخبر عاجل، ولم يكن المذيع قد اطلع عليه مسبقا، وإما أن محرر النشرة والمذيع معا لما يراجعا النشرة أساسا قبل البث.
***
أما فيما يتعلق بلفظ (بطريق) التي تكررت في الخبر، والتي ركز عليها الساخرون بلا عدة ولا دراية، فأرجح أن اللفظ قد جاء بهذه الصورة من غرفة التحرير؛ اعتمادا من المحرر على أن كلمة (بطريق) هي تعريب لكلمة (بطريرك) وأنا أقول: إن لهذا الاعتماد مسوّغا صحيحا من اللغة العربية لا ينكر.
(بَطريَرْك، وبَطريك، وبَطْرَك) على تعدد ألفاظها، وجمعها (بَطارِكة، وبَطارِك، وبَطَاريك) هي كلمة يونانية الأصل، دخلت في الثقافة المسيحية؛ لتعني الرئيس الأعلى للأساقفة. وهي، بهذا المعنى، مصطلح قديم في تراتبية الوظائف والمناصب الدينية الكنسية في المسيحية.
وقد اصطلح المؤرخون والكتاب واللغويون العرب، منذ فترة مبكرة، على تعريب الكلمة بصورة (بِطريق)، وتجمع على (بَطارِق) و (بَطاريق) و(بَطارِقَة).
فلا تنكرونيْ، إنّ قَوْميْ أعَـزّةٌ بَطارِقَةٌ بيضُ الوجوهِ كـرامُ.
أما كون كلمة (بِطريق) تعني نوعا من الطيور، فمسألة لا تقدم ولا تؤخر في هذا السياق؛ لأن هناك ما لا يعد من الكلمات التي يحمل كل منها معاني متعددة.
خلاصة القول: إن قارئ نشرة الأخبار لم يخطئ،من الناحية اللغوية، في استخدام كلمة (بِطريق)؛ ولم يأت بها من عنده، بل جاءته بهذه الصورة من غرفة التحرير، كما أن المحرر لم يخطئ في استعمالها بهذه الدلالة اللغوية، فهو استعمال صحيح، ولا يتضمن أي إساءة لمكانة البطريرك المبجّل.
هذا من الناحية اللغوية التي ركز عليها المهاجمون والساخرون، أما من الناحية البروتوكولية، فقد كان (من الأفضل) للمحرر أن يستخدم المصطلح ذاته المستخدم لدى الدولة الشقيقة، ولدى الطائفة المارونية المقدرة؛ لأن ذلك من الأعراف التي يجب أن تراعى قدر الإمكان.
وبناء على ما سبق، فما كان على التلفزيون القطري أن يعتذر عن استعمالٍ صحيحٍ لغويا، وما كان له أن يحمّل المذيع، وحده، مسؤولية استخدام لفظة صحيحة من حيث اللغة.
أما الذين لا يكادون يفقهون في الموضوع قولا، فإن عليهم ألا يدلوا بدلائهم المثقوبة في ما لا يعرفون، وأن يكفّوا عن النشر على الفيسبوك بطريقة: انسخ وألصق؛ استجلابا لتعليقات لا قيمة لها.
وصدق المتنبي؛ إذ يقول:
وكمْ مِنْ عَائبٍ قولًا صحيحًا وآفـتُـه من الفَهْمِ السّقيمِ
ولكنْ، تأخـذُ الأذْهـانُ منهُ على قَدْرِ القَرائحِ والعُلومِ.