تشير أنماط العنف الإرهابي المعاصر إلى أن نهاية العام الميلادي تمثل لحظة زمنية ذات دلالة خاصة في حسابات التنظيمات الإرهابية، حيث تتحول من مجرد إطار تقويمي إلى عنصر فاعل في إدارة العنف والدعاية. وتُظهر بيانات مؤشر الإرهاب العالمي (Global Terrorism Index) أن الربع الأخير من السنة غالبًا ما يشهد ارتفاعًا نسبيًا في عدد العمليات أو في حدّتها الرمزية، وهو ما لا يرتبط بالضرورة بتصاعد القدرات العسكرية، بل بوعي التنظيمات بقيمة “الإغلاق السنوي” في تثبيت صورة الاستمرارية والتأثير.
في هذا السياق، تعتمد التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش، ما يمكن وصفه بـ الأجندة العملياتية السنوية، حيث تُقاس الفاعلية بعدد العمليات المنفذة خلال السنة، لا بحجم السيطرة الميدانية. وتُستثمر نهاية العام لإنتاج خطاب “حصاد العمليات”، الذي يُعاد فيه ترتيب الوقائع وتكثيفها دعائيًا، حتى عندما تكون العمليات محدودة عسكريًا. ويؤكد مؤشر الإرهاب العالمي أن هذا السلوك يعكس تحوّل الإرهاب من نموذج السيطرة الإقليمية إلى نموذج العنف الرمزي والإعلامي، حيث تصبح العملية وسيلة لإثبات الوجود أكثر من كونها أداة لتحقيق مكاسب استراتيجية ملموسة.ضمن هذا الإطار، يمكن قراءة الهجوم الانتحاري الذي نُفذ في محيط مدينة تدمر السورية ضد القوات الأمريكية، وأسفر عن مقتل عسكريين أمريكيين، بوصفه عملية ذات طابع “ختامي” للسنة. فالهجوم، بغضّ النظر عن أثره العسكري المباشر، يؤدي وظيفة رمزية أساسية تتمثل في إرسال رسالة مزدوجة: داخليًا لتأكيد بقاء التنظيم وقدرته على المبادرة، وخارجيًا لنفي سرديات “الهزيمة النهائية”. ويُظهر مؤشر الإرهاب العالمي أن مثل هذه العمليات تزداد في الفترات التي يتعرض فيها التنظيم لخسائر قيادية أو تراجع ميداني، حيث تُستخدم نهاية العام لتعويض الخسارة الرمزية بعمل عنيف عالي الصدى.في المقابل، تكشف حادثة سيدني-أستراليا الأخيرة، التي استهدفت اليهود خلال احتفالات عيد الأنوار (حانوكا) وأوقعت عددًا كبيرًا من الضحايا، عن الوجه الآخر للإرهاب في نهاية العام، حيث يتقاطع البعد الزمني مع البعد الديني والاجتماعي. فاستهداف مناسبة احتفالية في لحظة انتقالية بين عامين يُعد من أكثر أنماط العنف تأثيرًا نفسيًا، لما يحمله من قدرة على تحطيم الشعور بالأمان الجماعي وتحويل الفرح إلى صدمة. وتشير تحليلات مؤشر الإرهاب العالمي إلى أن استهداف المدنيين في مناسبات رمزية يحقق للتنظيمات أو الفاعلين المتطرفين عائدًا نفسيًا وإعلاميًا مرتفعًا مقارنة بهجمات أقل رمزية.ولا يمكن فصل هذا النمط عن العامل النفسي المرتبط بنهاية السنة. إذ تمثل هذه الفترة لحظة مراجعة ذاتية وضغط اجتماعي مكثف، تتفاقم فيها مشاعر الفشل، العزلة، والعدمية، لا سيما لدى الأفراد المهمّشين أو المتأثرين بخطابات متطرفة. ويوثق مؤشر الإرهاب العالمي تصاعد دور الهجمات الفردية أو نماذج “الذئاب المنفردة” في الفترات ذات الحمولة الرمزية العالية، حيث لا يُفهم العنف بوصفه فعلًا سياسيًا عقلانيًا بقدر ما يُقرأ كـ خاتمة وجودية شخصية تتماهى مع سرديات الموت والخلاص.على المستوى الاستراتيجي، تسمح نهاية العام للتنظيمات الإرهابية بإرسال رسائل متعددة المستويات في توقيت واحد: إلى الأنصار للتأكيد على أن “السنة لم تمر دون دم”، وإلى الحكومات لإظهار عجزها عن تحقيق أمن مطلق، وإلى الرأي العام العالمي عبر فرض العنف على أجندة إعلامية مزدحمة أصلًا بخطابات التقييم والحصاد السنوي. ويلاحظ مؤشر الإرهاب العالمي أن هذا النمط يتكرر بشكل خاص في البيئات التي تتسم بالإرهاق الأمني أو الانشغال الإداري في نهاية السنة، ما يزيد من قابلية استغلال الثغرات المؤقتة.وعليه، فإن الربط بين حادثة سيدني وهجوم تدمر يكشف أن الإرهاب المعاصر، رغم اختلاف الجغرافيا والأهداف، يخضع لمنطق زمني واحد يقوم على تسييس التقويم، وتسليح اللحظة النفسية، وإدارة العنف بوصفه منتجًا سنويًا. فالإرهاب في نهاية العام لا يهدف فقط إلى إيقاع أكبر عدد من الضحايا، بل إلى إعادة كتابة ختام السنة بوصفه ختامًا دمويًا، يضمن للتنظيم أو الفاعل المتطرف حضورًا قسريًا في الذاكرة الجماعية مع بداية عام جديد، وهو ما تؤكده الاتجاهات العامة التي يرصدها مؤشر الإرهاب العالمي خلال العقد الأخير.على الصعيد المحلي في المملكة الأردنية الهاشمية يمكن القول بأننا شهدنا مثل هذا النمط من الإرهاب على الأقل خلال العقد المنصرم حيث بين "مؤشر الإرهاب في الأردن" الذي يصدر سنويا عن "مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب" في عمان الأردن أن معظم العمليات الإرهابية التي شهدها الأردن كانت تحدث على الأقل في الربع الأخير من السنة. هذا يعني أنه على الأجهزة الأمنية أن تضع في اعتبارها كافة أطياف التحليل الذي أشرنا إليه أعلاه وأن تستمر في عملها الاحترافي ولكن بمزيد من اليقظة والحذر.الشرفات يكتب: لماذا تزيد العمليات الإرهابية نهاية العام؟
د. سعود الشرفات
مدير مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب في عمان الأردن
الشرفات يكتب: لماذا تزيد العمليات الإرهابية نهاية العام؟
د. سعود الشرفات
مدير مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب في عمان الأردن
مدير مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب في عمان الأردن
مدار الساعة ـ