يخاف الإنسان أن يواجه نفسه، هذهِ مسألة فلسفية بحتة.. لا دخل لنا فيها، لكنها تشبه إلى حدٍ كبير نقطة فاصلة في حياة ميديا العصر بدءا من العام 2020، نقطة تحول سترسم بخطوط محفورة مسارات متعددة لمستقبل قريب.
“أنا بنت مين يا دادة” جملة من الفيلم الشهير “لا تسألني من أنا”، وربما استخدمها رواد شبكات التواصل الاجتماعي دوما على سبيل المزاح، لكنه يخطر على بالي فورا وأنا أفكر في مستقبل الميديا.. أو ميديا المستقبل، ولا أعني هنا محطات أو مؤسسات بعينها، السؤال أشمل وأعم بكثير، ولا إجابات معلبة.
في مصر ووفقا للبيانات الرسمية، حوالي 20.2 مليون شاب في المرحلة العمرية من 18 عاماً وحتى 29 عاما، و يعادل هذا تقريباً نسبة 21% من إجمالي السكان (عام )2019، أما عدد الأسر التي تعيلها هذه الفئة، فهي تقريباً 2 مليون و877 ألف و14 أسرة، أي بنسبة 12.3% من إجمالي سكان مصر، والسؤال هنا: ما الذي تشاهده هذه الفئة المهمة صانعة المستقبل؟ وما الذي تنفق عليه لأجل المشاهدة، وما الذي توجه عائلاتها لمشاهدته، وما السلع التي يتم الإعلان عنها لهذه الفئة وعلى المنصات التي تشاهدها؟
إجابة هذه الأسئلة هي أهم ما سيحدد نوعية “الإعلام” الذي يُصنَع لها، وأعتقد أن مسمى “الإعلام” هنا يجب أن يتسع ليبتعد كثيراً عن الصورة التقليدية التي ورثناها عن الماضي، لم يعد من قبيل التجديد الحديث عن أن المشاهد لم يعد متلقي وحسب، وإنما يتفاعل مع ما يقدم له، لكن من قبيل مواجهة الواقع علينا أن نأخذ ذلك في الحسبان، فالوضع الاستثنائي المفاجئ الذي واجهناه بحلول أزمة الكورونا، فرض قوانين جديدة للعبة لايمكن تجاهلها، وإذا اعتبرنا أن الفئة العمرية السابقة هي مؤثرة إلى حدٍ كبير، أضف إلى ذلك فئة المراهقين، وحتى الأطفال من عمر عشر سنوات تقريباً، سنجد أنفسنا أمام جيل يشاهد ميديا مختلفة تماماً عن تلك التي تعلمناها أو صنعناها يوماً ما، كيف إذن يمكن تجاهل ذلك؟!
هل تعرف “ويجز”؟
لو لم تكن قد سمعت اسمه، فلتبحث عنه على اليوتيوب، والإنستجرام، هو شاب سكندري، لديه 700 ألف متابع متفاعل على إنستجرام، و 800 ألف على يوتيوب، أما أغنيته الشهيرة “دورك جاي”، فقد حققت 31 مليون مشاهدة في ثلاثة أشهر لا غير، ويحفظها ( لا أعلم كيف يفهمون كلماتها) تقريباً كل من هم تحت العشرين! وبالمناسبة ..جمهوره تقريباً من كل الفئات الاجتماعية.
أما ربات البيوت من الفئة الاجتماعية المتوسطة والأقل منها، فلديهن قنوات يتابعنها على اليوتيوب، لا تحتاج لأي إنتاج سخي، وفيديوهاتها طويلة، ومع ذلك تحظى بمشاهدة كاملة، فهذهِ السيدة تذيع فيديو عن عمل “المحشي” مع “سلفتها” وحماتها، وأُخرى تذيع فيديو عن “سلفتها” التي تخبئ عنها حملها لكنها اكتشفت ذلك، مشاهدات بمئات الآلاف، واشتراكات في القنوات بمئات الآلاف،وبالطبع..إعلانات.
أما اليوتيبر الشهيرة الراحلة “ماما سناء”، فقد حظيت قناتها على اليوتيوب مع ابنها حمو، والتي حملت اسم “حمو شاكر وماما سناء” بعدد 675 ألف مشترك، أما آخر فيديوهات القناة فقد حقق 904 ألف في 17 ساعة حتى كتابة هذه المقال، وما سبقه 2 مليون و900 ألف في يومين!
لا يهمني أسباب لجوء هؤلاء إلى صناعة ميديا تخصهم، فهي في النهاية تجارة، وهذا ما يتيحه العصر، ما يدهشني هنا هو القدرة على جذب الجمهور، بكل عفوية وذكاء، ولا أتحدث هنا عن إنتاج رخيص التكلفة دوماً، ومن يشاهد فيديو أغنية “دورك جاي” سيفهم ذلك، فوراء ذلك صُناع على قدر من الاحتراف.
غير هذه الأمثلة يوجد الكثير والكثير على اليوتيوب، لكن ظروف الحظر والبقاء في البيت، ساعدت على زيادة عدد ومضمون هذه القنوات، ولا أزال مندهشة من قدرتها على جذب اهتمام ومتابعة الأطفال والمراهقين والشباب.
في هذا العصر يمكن لأي شخص أن يصنع ميديا خاصة به، لا يحتاج الأمر سوى لموبايل وإنترنت..وجمهور، يثير ذلك فضولي واهتمامي، وأيضاً الإحساس بالتحدي الكبير: فماذا يمكن أن تقدم لجمهور قادر على التجول بحرية بين كل هذه الاختيارات؟ ونجوم يخرجون “من المجهول ” بالنسبة لك.
تبقى ملاحظة..هذه الميديا ليست بالتأكيد بديلاً عن الميديا التقليدية، لكنها أيضاً بالتأكيد تستحوذ لنفسها على مساحة تزداد يوماً بعد يوم وهي جديرة بالمتابعة والاهتمام، على الأقل من باب مواكبة ما تقدمه.
على الجانب الآخر، نجد المنافسة مشتعلة من الشاشات التقليدية، حتى ولو كانت باشتراكات مدفوعة، المنافسة التي تحاول فيها هذهِ الشبكات القوية البقاء في المضمار، ومن ذلك ما تفعله الشبكة الأشهر OSN ، فبعد أن أذاعت على مدار ثلاثة أسابيع الأعمال الكاملة للزعيم عادل إمام، من خلال قناتها Pop up ، والتي تعمل بشكل موسمي، وللمرة الأولى تستمر إذاعة أعمال نجم لمدة ثلاثة أسابيع، يليها فوراً إذاعة أفلام النجم الأمريكي الشهير توم كروز ، وفي الوقت نفسه، تذيع يومياً فيلمين للنجم أحمد زكي على قناة “يا هلا سينما” والمتخصصة في الأفلام الحديثة، والتي كانت قد اتجهت من فترة لإعطاء مساحة كبيرة للأفلام اللبنانية والتركية المدبلجة، ولا يعني هذا سوى أنها تحاول جذب الشريحة التي تفضل مشاهدة الشاشة التقليدية لا المنصة الرقمية، وفي السياق نفسه، تحرص الشبكة على إرسال استبيان للرأي عن طريق الإيميل، وتطلب الإجابة بإلحاح،للتعرف على منافسيها من الشبكات الأخرى، وبالمناسبة أغلبهم منصات رقمية..ليست مصادفة بالتأكيد، هي تعلم ذلك وتحاول المنافسة بمنصتها الرقمية WAVO، التي تعترف هي نفسها بأنها ليست رقم واحد.
وبرغم الأجواء الاقتصادية المرتبكة بسبب الكورونا، تشتعل المنافسة أكثر، حيث يعلن اليوتيوب عن “يوتيوب بريميير” والذي سيكون لاعباً أساسياً في عالم منصات المشاهدة الرقمية.
وفي الوقت الذي تستحوذ فيه شبكة نتفليكس على المركز الأولى في العالم الرقمي، تتجه “شاهد.نت” للاستمرار في إنتاج محتواها الحصري، ثم تعلن “واتش إت” عن مفاجأتها بالإنتاج الحصري، ويبدو أن المستقبل القريب سيقدم الكثير.
ستزداد المنافسة على صناع المحتوى، لكن أي محتوى؟ هل هو المحتوى الذي يجتذب متابعي نتفليكس، شاهد، واتش إت، وغيرها من المنصات؟ أم المحتوى الذي يجذب متابعي اليوتيوب المجاني من أمثال ويجز و ماما سناء وغيرهم من نجوم مجتمع لا تعرفه الأضواء؟ وهل ستشهد الفترة المقبلة منصات رقمية مدفوعة لإنتاجهم؟
المؤكد أن أنصبة الكعكة ستتوزع على متنافسين أكثر، وربما أن ذلك سيحمل مفاجآت.
*تم التواصل مع صاحبة المقال الزميلة الصحفية المصرية فاطمة خير والسماح لنا بنشره