عبدالرحمن خالد الطورة
في بلادنا الأردنية ظاهرة ملفتة للنظر وتستحق البحث والدراسة المعمقة لأنها تزداد تجذرا يوما بعد يوم وأقصد بذلك ظاهرة تغيّر مواقف الأشخاص بتغيّر مواقعهم الوظيفية وبخاصة مواقف الذين تسلّموا مواقع قيادية عليا ثم تم أعفاءهم منها أما بسبب انتهاء مدة الخدمة واحالتهم على التقاعد أو نتيجة لارتكابهم مخالفات استوجبت عزلهم او انهاء خدماتهم أو بسبب خروجهم من الوزارة مثلا نتيجة لتشكيل أو تعديل وزاري جديد. فهؤلاء كانوا ابان عملهم أكثر الناس دفاعا عن السياسات الرسمية والأكثر أدعاء بالولاء والأنتماء للوطن والدفاع عن مصالحه والحرص عليها حيث كانوا ينعمون بالمزايا والأمتيازات التي كان الموقع يوفرها لهم لكنهم ما أن غادروا مواقعهم حتى وجدتهم في مقدمة الصفوف المعارضة مطالبين بمحاربة الفساد وتغيير النهج الذي كانوا هم جزءاً منه.
ويبدو أن هؤلاء يعتقدون أن الزمان لم ولن يجود بمثلهم كفاءة وأقتدارا ولذلك يجب أن يبقوا خالدين مخلدين في مواقعهم والا فأن البلد خربانه وتسير نحو الهاوية ولامنقذ لها الا بعودتهم الى ماكانوا عليه رغم أنهم يعرفون ان الكفاءة والجدارة لو كانتا هما المعيار المتبع في اشغال تلك المواقع التي تربعوا عليها سنين طويلة لما كان للكثيرين منهم نصيب فيها لأن اشغال تلك المواقع المتقدمة غالبا ما كان يتم على غير تلك الأسس وأنما على أسس التقسيمات والمحاصصات المناطقية والجهوية والعشائرية والطائفية وعلاقات المصالح الأقتصادية أو العائلية وغير ذلك من الأسس البعيدة كل البعد عن أسس تكافؤ الفرص القائمة على الجدارة والعدالة والتي لو طبقت بنزاهة وموضوعية لما كان لكثير من هؤلاء ان يصل لموقع رئيس قسم في الدائرة التي أصبح يحتل الموقع الأول فيها.
إن الفهم السائد للموقع العام مازال يعني لدى هؤلاء وغيرهم انه فرصة او وسيلة لتحقيق الذات وللوجاهة الاجتماعية والحصول على المزايا والمنافع الشخصية مغيبين الفهم السليم للوظيفة العامة او الموقع العام بانه موقع للخدمة العامة وأنه تكليف لا تشريف وأن هذا الموقع ليس مكانا للحصول على المغانم وأنما يمكن أن يكون صاحبه عرضة للمغارم ماديا ونفسيا.
ان معارضة هذا النوع من الناس لايمكن ان تقنع احدا لأنها معارضة انتهازية يسهل شراؤها وتدجينها وتحويلها الى مدافع شرس عن النهج الذي كانت تدينه وتطالب بتغييره وستكون اذا ماتم أرضاؤها حجة على المعارضين الحقيقيين مما يؤدي الى التشكيك في أهدافهم ودوافعهم ونواياهم وأمثلة هذه النماذج كثيرة منذ تأسيس الدولة وحتى الآن فغالبية هذه النماذج من المعارضة احتلت المواقع المتقدمة في الدولة وما زال بعض أقطابها وزراء بعد أن كانوا من السياسين المعارضين المخضرمين وحتى ممن كان يعتبر من قادة الحراك الدائر الآن، والسؤآل هو اذا كان هؤلاء المعارضين صادقين في محاربة الفساد ومقتنعين بتغيير النهج السياسي السائد فلماذا لم يجروا أية اصلاحات مما يدعون اليه اليوم عندما كانوا يشغلون تلك المواقع؟! لماذا بعد ان فقدوا مواقعهم يصطنعون الحكمة والعقلانية ويتظاهرون بالحرص على الوطن وعلى المال العام الذي كان لهم دور في هدره ابان عملهم ، وعندما تنتقد تذبذب مواقفهم يبررون ذلك بأن حساب القرايا ليس كحساب السرايا فأحكام الناظر لمواقع المسؤلية من خارجها غير أحكام الذي يمارسها لأن أحكام المراقب أحكام انطباعية لاتستند الى أسس صحيحة اومعلومات دقيقة في حين تظهر حقائق الأمور جليّة من خلال الممارسة؟!
ان هذه الظاهرة المرضية ليست الا جزءاً بسيطاً من حالة عامة مركبة ومعقدة يعاني الوطن والمواطنون من جراء نتائجها الكارثية غلاء وبطالة وفسادا ومديونية والخروج منها ليس بالأمر اليسير وانما يتطلب ثورة بيضاء في كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والادارية والتعليمية ، ثورة تضع حدا لحالة الفساد والتسيب والتراجع وهدرالمقدرات الوطنية وتعيد هيكلة حياتنا في كافة المجالات من خلال اصلاح حقيقي يشمل كافة المجالات وفي المقدمة المجال السياسي والأنتقال بنا من حالة المجتمع الريعي الى حالة المجتمع الانتاجي المعتمد على نفسه والتخلص من اقتصاد المنح والهبات والقروض الذي أثر ويؤثر على استقلالية قرارنا السياسي وأوصلنا الى شفير الهاوية، وبدون ذلك سنبقى نراوح في مكاننا وتزداد اوضاعنا سؤا وتدهورا لأن الحلول التسكينية أو الترقيعية او التجميلية او ترحيل المشاكل قد تم استنفادها وزادت وتزيد من تفاقم المشكلة بدلا من حلها.