الصحافة العربية تحمل في كل يوم الكثير من القصص والتحليلات والآراء، لكن القراء يمرون عليها مرور الكرام وقلما يتوقفون عند العناوين أو يناقشون المحتوى لعشرات القصص والتحقيقات والتقارير. بالمقابل ما إن يرد تقرير أو قصة أو خبر في إحدى الصحف الأميركية أو الإنجليزية والفرنسية حتى يتحول اهتمام القارئ العربي فيعيد قراءة المادة مرارا ويعبر عن دهشة الاكتشاف ويرى أن فيما نشر ما يستحق القراءة ويستدعي الاسترسال والتوغل في التحليل.
الواشنطن بوست والنيويورك تايمز والصحف اللندنية والفرنسية تشكل أهم المصادر لمعلوماتنا عن الشرق الأوسط وحول ما يدور في بلداننا. في حالات كثيرة يستشهد بعض الإعلاميين والمثقفين وحتى العاملين بالسياسة بما يكتب في الصحف الإسرائيلية ويعطونه أهمية قد تفوق ما ينشر في صحافتنا العربية والمحلية.
الأسبوع الماضي، انشغل الشارع العربي بما نشرته صحيفة هآرتس حول اللقاء الذي تم بين الرئيس محمود عباس ومجموعة من أعضاء جمعيات ومنظمات داعمة للسلام، وركزت على إجابة عباس عن أحد الأسئلة التي وجهت له والمتعلقة بما عرض على الفلسطينيين من قبل الإدارة الأميركية التي تعمل على إنضاج صفقة القرن. في رده على سؤال الناشطين، قالت الصحيفة إن عباس قد أشار الى مقترح يتحدث عن كونفدرالية أردنية وفلسطينية والذي علق عليه بإمكانية البحث فيه اذا ما كانت إسرائيل عضوا ثالثا في الاتحاد.
لا أظن أن الرئيس عباس كان جادا فيما قال، وإنما أراد أن يقول إن العرض الأميركي هو مناورة لفظية أخرى وقنابل دخان جديدة للتغطية على إجراءات التهويد التي تقوم بها إسرائيل بدعم وحماية أميركية. الشارع العربي ترك كل شيء وكرس وقته للبحث والنقاش لما نشر على لسان الرئيس عباس متجاهلا المناسبة والسياق والمغزى فتحول البعض الى توجيه النقد لرئيس السلطة، في حين ذهب البعض الى أبعد من ذلك الى وجود خطة يعلم بها القادة العرب وينتظرون الوقت المناسب للسير في تنفيذها.
التسليم بصحة ما نشرته الصحيفة العبرية والاستعداد لتناقله ومناقشته على المستويات كافة من دون الالتفات الى هوية الصحيفة وتوجهاتها ومن دون إعطاء الرئيس الفلسطيني أي هامش للمناورة في لقاء مع ناشطين إسرائيليين في مجال السلام يعبر عن عمق الأزمة التي تعيشها بلداننا. فالناس لا يثقون بإعلامهم وبصحفهم ويميلون للأخذ بما تنشره الصحف ووسائل الإعلام غير العربية أيا كانت ظروف النشر وغاياته.
في اللقاءات والتصريحات التي أعقبت النشر لما دار بين عباس والناشطين، وضحت السلطة الظروف والسياق الذي جاء ضمنه اللقاء، وتمت الإشارة الى سياسة إسرائيل الرامية الى قضم الأراضي الفلسطينية وتهويدها من أجل خلق واقع جديد، فهي لا تعترف بحق الفلسطينيين في الأرض والدولة وتتجاهل القرارات الدولية الداعية للانسحاب من الأراضي وإزالة المستوطنات وتعول على سياسة المناورة بالشعارات والحديث عن مفاوضات لا ترغب بعقدها من أجل خفض توقعات الفلسطينيين وكسب الوقت للتخلص التدريجي من السكان.
الحديث عن الكونفدرالية الأردنية الفلسطينية لا أرضية له، فلا دولة فلسطينية مستقلة ولا حدود معترفا بها، والأمر لا يعدو شعارا من الشعارات التي يعرف الإسرائيليون والأميركيون أنها غير ممكنة الحدوث في هذا التوقيت الذي تتعثر فيه الجهود التي انطلقت للتسوية منذ أكثر من ربع قرن.
الحديث الذي شغل الشارع وغذى الخلافات في المواقف وفتح المجال للكثير من التشكيك والتخمين جزء من الاستراتيجية الإعلامية الإسرائيلية الهادفة الى إدامة الخلافات وبث التشكيك وتدعيم الفكرة القائلة إن تأخر الحل للقضية الفلسطينية ناجم عن غياب شريك موثوق وقادر وفاعل.
الغد