بقلم: محمد الحسيني
شكلت محافظات الفرات الأوسط والجنوب العراقي على مدى السنوات الماضية خزانا تصويتيا مكن عددا من الأحزاب ذات الصبغة الدينية من الوصول الى سدة الحكم والسيطرة على مقاليد الأمور في بلد عانى ولا يزال يعاني من مشاكل اقتصادية وخدمية لا يمكن فهمها في ظل ما يملكه من ثروات ضخمة وفرص كبيرة.
منذ سقوط نظام البعث في العراق عام 2003، لعبت معظم الأحزاب العراقية على أوتار الطائفية والمذهبية لتحقيق مكاسب سياسية، وتحول جزء كبير من هذه الأحزاب الى حكومات ظل تسيطر على مناطق جغرافية مستفيدة من امتلاكها للمال والسلاح، وجولة واحدة في بغداد على سبيل المثال تجعلك تدرك هذه الحقيقة على الفور، فهذه المنطقة خاضعة لسيطرة هذا التيار وتلك المنطقة خاضعة لسيطرة تيار اخر منافس، سيطرة بالمعنى الحرفي وليس السياسي، حيث يمكنك ان ترى نقاط تفتيش وحمايات تابعة لهذا الحزب او ذاك في بعض المناطق، وهي صورة تعكس سطوة الأحزاب على مؤسسات الدولة، ناهيك طبعا عن تكريس المحاصصة في تشكيل مؤسسات الدولة العراقية السياسية والمدنية والعسكرية.
ما يحدث الان في محافظات جنوب العراق ليس وليد اللحظة، ولم يأت من العدم، وعلينا ان نتذكر الصراع الدامي في العام 2008 بين أنصار مقتدى الصدر ورئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي الذي قام بشن عملية عسكرية واسعة في المحافظة بعد ان كانت شبه خارجة عن سيطرة الحكومة المركزية، وعلينا ان نتذكر ان سكان المحافظات الجنوبية قد خرجوا سابقا في مظاهرات واحتجاجات ضد السلطات المحلية والحكومة المركزية اعتراضا على الواقع الاقتصادي والخدمي السيئ الذي يعيشه أبناء هذه المحافظات منذ سنوات.
خلاصة القول ان أسباب الاحتجاج موجودة، وتتمثل باختصار في معاناة سكان هذه المحافظات من الوضع الاقتصادي السيئ وارتفاع معدلات البطالة وتردي الخدمات العامة، ويضاف الى ذلك ما يتم تداوله من قصص وحكايات حول ملفات الفساد التي فاقت التصور، وحول استغلال قيادات حزبية لمواقعها لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية على حساب المواطنين.
عبر سكان المحافظات الجنوبية عن عدم رضاهم على أداء الأحزاب التي طالما انتخبوها وذلك من خلال معاقبتها في الانتخابات الأخيرة اما بالمقاطعة او بالتصويت لصالح تحالف "سائرون" الذي يتزعمه مقتدى الصدر، فحل هذا التحالف أولا في جزء من محافظات الجنوب بما فيها محافظتي كربلاء والنجف كما حل ثانيا في محافظة البصرة، وزاحم بقوة الأحزاب التي سيطرت تاريخيا على باقي محافظات الجنوب، فكانت الرسالة واضحة بأن أبناء هذه المحافظات يرغبون في احداث تغيير سياسي عل وعسى ان يؤدي هذا التغيير الى تحسن في واقعهم الاقتصادي والخدماتي.
اذا يمكننا ان نقول ان المواطنين في محافظات جنوب العراق قد عبروا عن عدم رضاهم على واقعهم بالطريقة الأمثل، أي من خلال صندوق الاقتراع، الا ان التطورات التي حصلت بعد الانتخابات العراقية الأخيرة ولدت لدى الشارع العراقي شعورا بأن هناك محاولات للانقضاض على نتائج الانتخابات، وهو ما ولد حالة من خيبة الأمل والشعور بالخديعة، وتزامن ذلك مع الشرارة التي اشعلت الاحتجاجات في البصرة والتي تمثلت في انقطاع الكهرباء عن المحافظة، ليتحول الشعور بخيبة الأمل الى غضب شعبي عارم ولتنطلق بعدها احتجاجات كبيرة تنادي بمحاسبة المسؤولين المحليين والحكومة المركزية والأحزاب السياسية، ولتمتد هذه الاحتجاجات من البصرة الى محافظات أخرى في الفرات الأوسط والجنوب.
في محاولة قراءة انتفاضة الجنوب العراقي علينا ان نأخذ بعين الاعتبار بعض العوامل التي قد تساعدنا في فهم ما يجري بعيدا عن نظريات المؤامرة الكبرى التي بدأت تنتشر، واولى هذه العوامل هو ما ذكرناه سابقا بأن هناك غضبا حقيقيا لدى الناس نتيجة الوضع المتردي للخدمات وتفشي البطالة وسوء الأحوال الاقتصادية في بلد يعتبر من اغنى دول المنطقة والعالم، العامل الثاني ان الناس قد ضاقت ذرعا بتصرفات القوى السياسية العراقية وخاصة ذات الصبغة الدينية، وفي الجنوب نتحدث تحديدا عن الأحزاب الشيعية، هذه الأحزاب التي تحول عدد من قياداتها الى اثرياء واقطاعيين، وتحول بعض منتسبيها الى فارضي اتاوات وزعماء تشكيلات مسلحة ترهب الناس وتضايقهم في ابسط تفاصيل حياتهم اليومية، اما العامل الثالث فهو أن لدى المواطن البسيط شعورا بأن المرجعية الدينية الشيعية ممثلا بالسيد السيستاني غير راضية عن الوضع الحالي وغير راضية عن تصرفات بعض الأحزاب والمليشيات بما فيها تلك المنضوية في الحشد الشعبي، وهو ما يترجمه المواطن البسيط بأنه مباركة من المرجعية للاحتجاجات، أما العامل الرابع فهو ردة الفعل التي صدرت عن الأحزاب والحكومة والتي سارعت الى توجيه الاتهامات الى المتظاهرين بوجود مندسين بينهم بدلا من ان تسارع الى اتخاذ خطوات تهدئ من غضبهم حتى لو كانت رمزية.
وفقا لمصادر متطابقة فأن اغلب المشاركين في الاحتجاجات هم من المواطنين الذين قاطعوا الانتخابات وكذلك من انصار التيار الصدري، وهذا يعني ان الغضب الشعبي موجه بالدرجة الأولى الى الأحزاب والقوى السياسية الأخرى وخاصة حزب الدعوة وبعض قوى الحشد الشعبي ومنها عصائب أهل الحق، ودليل ذلك قيام بعض المتظاهرين بالهجوم على مقرات هذه الأحزاب واحراقها، فيما كان موقف التيار الصدري المعلن مؤيدا لحق الناس في الاحتجاج. وهذا التوصيف ينفي ما اشيع حول أن ما يحدث هو تخطيط إيراني لخلق حالة من الفوضى بعد قرار الإدارة الامريكية باحكام الحصار على صادرات النفط الإيرانية، فالهجوم الشعبي يستهدف بالدرجة الأولى الأحزاب الموالية لإيران، والتي سينتج عن سقوطها تقويض مباشر للتأثير الإيراني في العراق. كما أن تركيبة المتظاهرين تعطي مؤشرا على عدم وجود تدخل من دول أخرى كالسعودية على سبيل المثال، حيث لا تملك الدول العربية بشكل عام والسعودية بشكل خاص مساحات نفوذ في مناطق الجنوب والفرات الأوسط.
بقي أن نقول ان الاحتجاجات التي انطلقت من البصرة وامتدت الى باقي محافظات الجنوب مرشحة ان تصل الى بغداد التي شهدت سابقا مظاهرات واسعة تنادي بمحاسبة الفاسدين، وفي حال وصلت الاحتجاجات بشكلها الحالي الى بغداد فأن ذلك ينذر بانفجار كبير قد يغير شكل الخارطة السياسية الداخلية في العراق اذا لم يتم التعامل مع الاحتجاجات بطريقة سليمة من قبل حكومة السيد العبادي، واذا بقيت الأحزاب مصرة على فكرة ان هذه الاحتجاجات هي مؤامرة ضدها، وانجرفت الى ردود فعل عنيفة ضد المحتجين فان ذلك قد يؤدي الى اعمال عنف كبيرة لا تحمد عواقبها.