عيسى يوسف حداد
في البدءِ كانت الكلمة والكلمة صارَ جسداً وحلَّ بيننا ورأينا مجده، جاء الكلمة ليُخلص البشر من الخطيئة ، جاء الكلمة ليقول الحق في وجه ناكري الناموس والإيمان ومضطهدي الأنبياء وقتلة الرُسل والقديسين، جاء ليُدافع عن كلمة الله ولينشر بشارته في المسكونة كلها, بدأ بشارته من بيت لحم مكان مولده ومنها إلى ناصرة الجليل ومن ثم في كل بقاع الأرض المقدسة، هؤلاء هم من المسيحيين العرب أبناء هذه الأرض المقدسة فهم أبناء الكلمة وحجارتها الحية، الفلسطينيون والأردنيون ملتفون دائماً وأبداً حول قيادتهم في التصدي للمخططات الإسرائيلية، والدليل هو حراك أبناء الكنيسة المقدسة ضد السياسات التي تتبعها البطريركية المقدسية ممثلةً برأس الهرم المدعو بطريركاً للمدينة المقدسة "ثيوفيلوس الثالث" التي أصبحت علناً حليفةً للمشروع الصهيوني وإحدى أدواته الخبيثة في المنطقة لتحقيق حلم دولة إسرائيل؛ فشتان ما بين أبناء الكنيسة السائرين على خطى السيد المسيح في رفضه للصوص وتُجّار الهيكل وطردهم خارجه بحسب متى الإنجيلي "مكتوبٌ: بيتي بيتَ الصلاةِ يُدعى، وأنتم جعلتموهُ مغارةَ لصوص "وبين المتنفذين والمنتفعين في البطريركية الأورشليمية المقدسية المتألمة أم الكنائس.
إننا كأردنيين وفلسطينيين لم نتحرك إلا من أجل كنيستنا وليس ضدها كما يُحاول أن يروج مؤيدو المدعو بطريرك؛ فنحن مع الكنيسة ولكننا بكل تأكيد ضد تصرفات وأعمال هذا البطريرك وحاشيته وأعوانه وهذا يأخذنا للتأكيد أننا لسنا ضد اليونان دولةً وشعباً؛ فنحن نكنُّ لهذه الدولة كل الإحترام والتقدير، وإننا وبكل فخرٍ أبناء أم الكنائس مدافعون عنها باستماتة، وهم أضداد المسيح بتأيدهم للباطل ، "وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون. من هنا نعلم أنها الساعة الأخيرة. منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لانهم لو كانوا منا لبقوا معنا لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا" ١ يوحنا٢.
فأتساءل كيف لهؤلاء المدافعين عن الباطل أن يمنحوا أنفسهم الحق بنعت أبناء الوطن بالغوغائيين والمأجورين وأبناء الشياطين، في حين لم يتجرأوا على إنتقاد السبب الذي دعا أبناء هذه الكنيسة المتألمة للوصول إلى هذا الوضع المتأزم ؟! في الحقيقة، هؤلاء ينطبق عليهم قول المزمور 115:"لها أفواه ولا تتكلم ، لها أعين ولا تبصر، لها آذان ولا تسمع"؟! كما ينطبق عليهم كلام إنجيل مرقس الإصحاح الثامن " ألكم أعين ولا تبصرون، ولكم آذان ولا تسمعون، ولا تذكرون " 8:18.
وقبل أيام نُشرَ مقال تداولته مواقع مختلفة في الأيام السابقة نقلاً عن أحد المدافعين عن المدعو بطريرك وهو الشخصية البارزة وله مواقفه الوطنية والعلمية وله بصمات واضحة في السياسة الأردنية، وهنا أتسائءل كيف لمن يرى في نفسه ناطقاً بإسم المسيحيين العرب وجهبذاً من جهابذة اللغة العربية وحاملاً لشهادة الدكتوراة في الهندسة أن يُسقط التاريخ النضالي لأبناء الكنيسة الأرثوذكسية والمستمر منذ قرون عدة وعقود طويلة؟! وكيف له أن يُفسر سبب عدم تعييد المسيحيين الأرثوذكس بالميلاد المجيد حسب التقويم الشرقي " التقويم اليولياني " والمسيحيين الكاثوليك حسب التقويم الغربي " التقويم الغريغوري " سوياً لأن الكنيسة لا تتسع أن يصلوا في نفس اليوم؟!
هل هذا إستهانة بعقول أبناء الكنيسة واستخفاف بفكرهم ووعيهم اللاهوتي !! ألا يعلم أن هناك التقويم اليولياني الذي تتبعه كنيسة أورشليم وروسيا وجورجيا وغيرها من الكنائس الأرثوذكسية في العالم ، والتقويم الغريغوري الذي تتبعه الكنيسة الكاثوليكية ! وكيف لهذا العلاّمة والسياسي البارز أن يُصرح بأن من قام باعتراض موكب المدعو بطريرك ليسوا من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية، بل هُم مسلمون وسُكّان مخيمات الدهيشة والعروب وقد إنضم إليهم قلة من المغررين بهم من أبناء الرعية الأرثوذكسية؟!
في الحقيقة، إن من زوده بهذه المعلومات المغلوطة يُريد بها تشويه مسيرة الدكتور التاريخية في طرحه لبعض القضايا الهامة وخلق فتنة داخل أبناء الوطن الواحد ليكون الوطن هو الخاسر الوحيد ، هذا كما غيّب الدكتور عن نفسه وعن القراء أن جميع من وقف في يوم عيد الميلاد المجيد هم من أبناء الكنيسة المقدسة خرجوا إلتزاماً لمقررات المؤتمر الوطني الأرثوذكسي الذي عُقد في بيت لحم في الأول من تشرين الأول لعام 2017 والذي جاء بعد صولاتٍ وجولات من تهميش الرئاسة الروحية لأصوات أبنائها المنادية بالإصلاح ومحاربة الفساد داخل الكنيسة المقدسة إنضم إليهم قلة من أبناء الوطن المؤمنين بعدالة القضية الأرثوذكسية من طلبة جامعة بير زيت وليسوا كما ذكر معاليه .
إن الناظر اليوم لحالِ كنيستنا الرومية المشرقية "أم الكنائس" يرى أن المصالح والمكتسبات الشخصية ما تزال قائمة ولكن بطريقة أخرى أكثر قذارة من سابقها، حيث أن من لا يعرف قيمة الأرض ورمزيتها الدينية التي تعنيها لأبناء الكنيسة لن يهمّه بيعها أو تأجيرها أو حتى المساومة عليها، وكما نُنادي دوماً بأن الوطن خطٌ أحمر فإن الكنيسة وأوقافها كذلك خطٌ أحمر يجب عدم المساس بها لأنها صمام الأمان لشعبها وبالتالي صمام الأمان للوطن .
وقد آن الأوان وبعد أن افتضح أمر المدعو بطريركاً وتورطه بالكثير من البيوعات وصفقات التفريط الأخيرة أن يكشف الحقيقة أمام كل أبناء الوطن، فهذه القضية هي قضية وطنية بامتياز وليست قضية روحية كنسية فقط! إن المدعو بطريركاً وإدارته وأعوانه ومجمعه المقدس مطالبون أمام الرأي العام المحلي والعالمي والأهم من ذلك أمام الرعية بتقديم كشوفات توضيحية لأملاك الكنيسة الأرثوذكسية المؤجر منها والمستثمر من قبل الكنيسة والوثائق المتعلقة بالبيوعات التي تمت لشركات استيطانية وأخرى أجنبية، تلك الأوقاف التي هي مُلكٌ للشعب الأرثوذكسي لأنها منه وله وليس لأحدٍ غيره.
إن المدعو بطريركا مُطالب بتطبيق القانون الأردني رقم 27/1958 والتعهدات التي التزم بتنفيذها أمام وزير الداخلية الأردني سمير الحباشنة في العام 2005م لدى إنتخابه بطريركاً للمدينة المقدسة! أفلا يكفي أنه لم يلتزم بتنفيذ القوانين الكنسية والتي يُخالفها منذ توليه المنصب؟!
لم يعد أمر البطريركية الأورشليمية المقدسية مسكوتا عنه وخاصة باستهانتهم بموضوع الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة؛ فحريٌ "بالمدعو بطريركاً" أن يحترم تلك الثقة الممنوحة له من قبل الهاشميين وأن لا يفرط بشبرٍ واحد من أملاك الكنيسة للصهاينة لخدمة مشروعهم الأزلي، واذا كان هذا البطريرك وحاشيته لا يُدركون الدور الأردني في حماية المقدسات؛ فإن الأردنيين والفلسطينيين جميعاً ملتفون حول القيادة الهاشمية ومدركون لهذا الدور الكبير الذي يُعهد به للهاشميين أصحاب الوصاية العامة على جميع المقدسات الإسلامية والمسيحية وأصحاب القضية المركزية والرئيسية للأردن والأردنيين.
إن قُدسنا أرض القداسة تتدنس من مُغتصبيها ومنّا مع الأسف من يُشاركهم في هذا- إمّا بالصمت وأغلبنا من هذه الفئة نصمت غير مبالين بما يحدث، وآخرون هُم من يُساومون بأملاك أجدادنا الذين كابدوا المشقات والعذابات كي تبقى القدس منبع قداسة ، وإن صمتنا عن مصير كنيسة القدس رُغم هذا التفريط في تهميش الرعية و ممتلكاتها والتي كانت تضم خُمس أراضي القدس القديمة هو تخلٍ واضح وسافِر عن هوية كنسيتنا الرومية وهويتنا العربية المقدسية ونزع بذورٍ معطرة ومروية بدماء الشهداء والقديسين التي راقت على أرضها كي تنمو وتثمر للعالمِ سلام ،وأن ثباتُنا في هذه الأرض هو ثباتُ كنيستنا الأرثوذكسية المقدسة ، هذا التراث العريق هو في عُهدتنا طالما أننا باقون في هذه الأرض، فالكنيسة هي إرثنا الإلهي المقدس ودينٌ في رقابنا لا بُدَّ وأن نُسدده.
وفي النهاية أرى أن الحل الوحيد لإنهاء الأزمة داخل البطريركية وإنهاء الشرخ الكبير ما بين الرئاسة الروحية والشعب المؤمن هو بأن يرحل هذا المدعو بطريرك ولتعود الكنيسة المقدسة إلى حيث تأسست وهو العمل برسالتها الروحية نحو خلاص النفوس لتعيش الكنيسة وأبنائها بسلام .