انتخابات نواب الأردن 2024 أخبار الأردن اقتصاديات دوليات جامعات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب رياضة مقالات مقالات مختارة جاهات واعراس الموقف مناسبات شهادة مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة

العرب بين الماضي والحاضر

مدار الساعة,مقالات
مدار الساعة ـ نشر في 2017/08/29 الساعة 02:06
حجم الخط

المخرج محمد الجبور

أن المشكلة القائمة هي بين حاضر العرب ومستقبلهم، اذ لا يوجد في البلاد العربية نزعة فكرية خالصة يصح بأن تسمى رجعية، أي انها تقول بالرجوع الى الماضي، واعادة بناء المجتمع العربي على أساسه. ولكن النزعتين الراهنتين اللتين تتوزعان العرب في هذا العصر وتتجاذبانهم هما: نزعة محافظة تحاول الاحتفاظ بالأوضاع الراهنة وما يلابسها من تقاليد ومصالح، ونزعة قومية تقدمية تضيق بهذه الأوضاع وتسعى لتحطيمها والانفلات منها الى حياة تكون أصدق تعبيرا عن امكانيات الشعب العربي وحاجاته. فالمحافظون هم جميع الذين لهم مصلحة في بقاء الأوضاع الراهنة، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم فكرية. وهم بحكم هذا التعريف أقلية بالنسبة الى مجموع الأمة تجمعهم على اختلافهم صفة الاستغلال. اما التقدميون فيمثلون الكثرة الساحقة التي تتوقف حياتها على التخلص من تلك الأوضاع. وكما ان نقص الوعي عند بعض المحافظين يقودهم الى التناقض وتأييد ناحية من نواحي التحرر، فكذلك نقص الوعي عند جمهور الشعب ما زال يدفعه الى معاكسة ناحية او أكثر من نواحي قضيته القومية التقدمية.

أما المشكلة النظرية التي تقوم في أذهان البعض على الإختلاف بين الإستمساك بالماضي والتحرر منه، فهي مشكلة وهمية يكفي لتبديدها ان توضح. فالماضي الذي تحنّ اليه الأمة وتجد فيه ثروة لها قوة، هو الزمن الذي تحققت فيه روحها، والمستقبل الذي يناضل التقدميون في سبيل بلوغه ليس الا ذلك المستقبل الذي تستطيع فيه الروح العربية أن تتحقق من جديد. ولكن بينما يحسب البعض ان هذا السير نحو تحقق الروح العربية يجب أن يكون رجوعا وهبوطا أي ايغالا في الجمود والشكليات، يرى التقدميون انه يجب أن يكون سيرا حرا صاعدا وبتعبير آخر، يريد الفريق الأول ان يصل الى الروح عن طريق الأشكال الميتة، بينما يسلك الفريق الثاني، الطريق الطبيعي الصادق، وذلك بالانعتاق من كل ما هو جامد ميت، وباستثارة كوامن الحيوية وروح الحرية والمسؤولية في نفوس العرب. وبينما يعتبر الأولون الماضي منحة وهبة تكافأ بها العبودية والجمود، يرى الآخرون في الماضي استحقاقا لا يبرره الا النضال الصاعد والمواهب المنطلقة، فالروح لا ترجع ولا تهبط ولكننا نحن الذين نتقدم نحوها ونرتقي اليها لنلتقي بها
لعل أهم ما يميز هذا العصر اكتشافه لحقيقة كبرى هي أهمية الاقتصاد وتداخله في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والفردية. وقد كان اكتشاف هذه الحقيقة مصحوبا بالغلو والجموح فاضطرت -لكي تعلن عن نفسها وتحتل مكانتها المشروعة بين الحقائق الانسانية- ان تظهر بمظهر الاستئثار والتعسف، وقدمت نفسها على انها الحقيقة الأولى والاخيرة، والحقيقة الوحيدة. ونتج عن ذلك تشويه وتضليل كبيران. ولا يحارب التشويه والتضليل بالتجاهل والعناد بل بروح الانصاف والتجرد، أي بالاعتراف لهذه الحقيقة بنصيبها العادل الراهن من الوجود.

والعوامل الاقتصادية ان لم تكن كل شيء في حياة البشر فهي شيء كبير وخطير، وان لم تكن المؤثر الأول فان لها على كل حال تأثيرا متبادلا وفي بعض الأحيان حاسما مع العوامل الأخرى. وان كل تعريف للروح وقيمها لا يحتوي في صلبه اثرا للعوامل الاقتصادية وتقديرا لأهميتها وتوقعا لنتائجها، انما هو تعريف ناقص وزائف. والخطر على الروح لا يأتي من الذين ينكرونها ويتحدونها بل من الذين يزيفونها ويسترون بعض جوانبها الأساسية. وكل توكيد للقيم الروحية يقف عند حدود الألفاظ والمبادىء المجردة، ويجبن عن مجابهة الحقائق الواقعية والسير بالمبادئ الى آخر طريق التحقيق، انما هو في الواقع خيانة وانكار للروح وستار لتوكيد نقيضها أي ستار للمادة الغاشمة. وعندما تتشوه القيم الى حد التناقض، وتفسد الأوضاع حتى تؤدي الى عكس الغاية التي وجدت من أجلها، في مثل هذه الحالة تصبح الدعوة الروحية الأصيلة هي التي تتحرر من نفسها، أي من الزيف الذي وقعت فيه الروح، ومن المصطلحات التي باعدت بينها وبين وظيفتها الحيوية، وتصبح الدعوة الروحية وعاءا رقيقا شفافا للمشاكل الإجتماعية والمادية، فتعطي لهذه المشاكل المقام الأول من الإهتمام وتصعد منها في ارتقاء شاق بطيء لتعلن في نهاية هذا الصعود -بظفرها على مشاكل المادة- عن حقيقتها.

مدار الساعة ـ نشر في 2017/08/29 الساعة 02:06