د. جواد العناني
في مطلع هذا القرن، كان الناس يتحدثون عن العولمة ليلا ونهارا، بعضهم دافع عنها، وقال إن تطور التكنولوجيا في مجال الحوسبة الغمامية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات قد ربط العالم بعضه ببعض برباط وثيق لا انفكاك منه، وآخرون نظروا إلى آثارها السلبية على اقتصادات الدول النامية، وعلى سوء توزيع الدخل والثروة داخل الأقطار وفيما بينها. وقد أدى هذا كله إلى قيام حوار طويل لا ينتهي، وقامت مظاهرات صاخبة احتجاجاً على صندوق النقد والبنك الدوليين، وعلى منظمة التجارة العالمية.
وفي كتابه بعنوان «الليكسس وشجرة الزيتون» المنشور عام (1999)، يقول توماس فريدمان المحرر والمعلق على الشؤون الدولية في صحيفة «نيويورك تايمز»، إن العولمة تسير إلى الأمام بقوة، وأن الوسيلة المثلى لتقدمها هو التوفيق بين الازدهار والحداثة والتي تمثلها سيارة الليكسس اليابانية، والتقاليد والهوية التي تمثلها شجرة الزيتون.
وقدم لنا توماس فريدمان بعض الأفكار الجذابة عن العولمة وصل بعضها إلى حد الشطح حين قال «بأن العالم لم يشهد حروباً بين دول متجاورة بعدما رخصت لشركة «ماكدونالدز» وقوسها الذهبي بممارسة نشاط بيع «الهامبرجر» والبطاطا المقلية فيها.
ولكنه قال ايضاً إن العولمة قد حفزت الديمقراطية ومكنت دولاً صغيرة من أن تحدث تأثيراً قوياً في العالم، وأعطى على ذلك قناة الجزيرة مثالا والتي اعطت دولة قطر نفوذاً ومكانة في العالم تفوق حجمها ومقدراتها.
وبعد استلام «دونالد ترامب» مقاليد الحكم في العالم، رأينا ان الانفتاح التجاري العالمي قد تعرض لهزة كبيرة، فالرجل يريد إعادة الوظائف إلى أمريكا، أي أنه لا يريد للصناعات الباحثة عن عمالة أقل كلفة أن تفتح مصانع خارج الولايات المتحدة، ولا أن تقوم بشراء بعض قطع التصنيع أو الخدمات من خارج الولايات المتحدة، وهذا ما فعلته شركات السيارات والحديد والغذاء والملابس والجلود ومعدات الرياضة، وكذلك شركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة.
وعندما كان العالم يؤمن بأن الانفتاح التجاري هو السبيل الأمثل لرخاء العالم، وأن النمو المعتمد على قوة التصدير والتنافسية الأضمن لتحقيق معدلات نمو مستقرة ومستدامة، أنشئت منظمة التجارة العالمية حين وقعت مائة وثلاث وعشرون دولة عام 1994 على إنشائها من أجل تشجيع التجارة الحرة بدون قيود جمركية أو سعرية أو كمية، ويبلغ عدد الدول الأعضاء الآن مائة وأربع وستين. ولكن ماذا حصل لهذه المنظمة؟ كنا نتذكر اجتماعاتها، ونعرف اسماء مدرائها العامين أمثال مايكل مور، وروجيرو، ونعرف الآن اسم «باسكال لامي» الفرنسي الذي خدم من الأعوام (2005-2013) ولكن القلة من تعرف اسم المدير الحالي البرازيلي.
ماذا سوف يحصل للاقتصاد العالمي لو أن حرب العملات استعرت بين الدول، وسعت كل دولة إلى إفقار شركائها التجاريين عن طريق التلاعب بأسعار صرف عملاتها، والشواهد على وجود حرب اسعار كبيرة وكثيرة، خاصة وأن الاعتماد على عملة دولية واحدة كالدولار بات يبدو أمراً خاضعاً للنقاش والمنافسة من قبل دول كبرى أخرى كالصين والاتحاد الاوروبي.
ماذا يفعل العالم إذا بدأت كل دولة بتطبيق سياسات الحماية الجمركية والقيود الكمية على المستوردات من دول أخرى؟ وماذا ستكون النتيجة على اقتصادات دول العالم لو أن كل دولة سعت إلى تعزيز عملية التصنيع فيها عن طريق احلال منتجاتها مكان مستورداتها؟
لقد جرب العالم هذا الأسلوب بعد الحرب العالمية الثانية وبخاصة إبان عقود الخطط التنموية الخمسية في دول مثل البرازيل والهند وباكستان ومصر والأرجنتين، وسوريا، والعراق، وغيرها، وكانت النتائج في عمومها غير مشجعة، فقد عانت اقتصادات كثير من هذه الدول من التضخم، وتردي النوعية، وعدم القدرة على التصدير، ولكن لكل نظرية استثناءات تشذ عنها وتخرج عن سياقها، فقد نجحت ألمانيا بالتصنيع عن هذا الطريق وكذلك سوريا إلى حد ما، ولكنها فشلت في دول عربية أخرى مثل اليمن، ومصر، والجزائر، وغيرها من الدول.
وجرب العالم بعد ذلك أزمة المديونية، وهيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، وانفتاح الصين بعد هزيمة الثورة الثقافية فيها، ودخل العالم في نموذج الانفتاح المعتمد على اتفاقيات التجارة الحرة والمدعوم من قبل منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد والبنك الدوليين.
وماذا كانت النتيجة؟ لقد أدى فشل دورة الدوحة لمنظمة التجارة العالمية في تحرير تجارة السلع الزراعية وصادرات المواد الأولية إلى شعور الدول النامية بالخذلان الكبير، وفشلت كل المحاولات بعد ذلك في زحزحة الدول الغنية عن موقفها.
وكذلك وجد العالم نفسه بعد الثورات التكنولوجية أسوأ حالاً مما كان، حيث استأثر اغنياء العالم بمعظم الثروة والدخل كما أوضحت كتابات الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي.
أما الصين فقد اعتمدت على تزويد العالم بالسلع الاستهلاكية الرخيصة لعقدين مما ساهم في تثبيت الأجور في اقتصادات العالم مقابل زيادة أرباح شركات التوزيع والتسويق، والتي تتاجر تحت أسماء تجارية حصرية وبراقة. وبفضل التطور في وسائل الدعاية والترويج، والقدرة على استخدام وسائل الإعلام والتواصل الجماهيري، خلق جيل جديد في العالم يصر على استهلاك وشراء ما تطرحه وكالات التسويق ودور المبيعات العالمية في الغرب، ولكن الصين الآن تريد أن يكون لها وسائلها التسويقية، وتريد أن ترتقي بالمستوى التكنولوجي لصناعاتها، وأن تدخل إلى انتاج الطاقة والفضاء والسلاح والآلات والمكائن، ولو أدى هذا إلى تخفيض نموها السنوي من رقمين إلى رقم واحد.
ورأينا بروز تكتلات جديدة مثل «البريكس» التي تضم خمس دول هي الصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل لكي تواجه العملاق الأمريكي، ولكن بريكس لا تتحرك بنفس الوتيرة التي تتحرك بها الصين وحدها نحو إنشاء بنك تنمية آسيوي، أو بناء طرق الحرير (حزام واحد وطريق واحد).
ولقد رأينا في العالم نزعة متزايدة نحو التنصل من التزامات الاتفاقيات الجماعية لحرية التجارة في التكتلات الإقليمية، فلم تعد نافتا (منطقة التجارة الحرة في شمال أمريكا)، ولا حتى «السارك» التي تضم دول جنوب آسيا (الهند والباكستان وبوتان وسيكيم وسريلانكا والمالديف ونيبال وبنغلاديش) تسير بخطى نحو التآلف والانفتاح التجاري.
وأخيراً شاهدنا ارتفاعاً في اعداد القرارات الخالقة لعقوبات اقتصادية أو مقاطعة اقتصادية في العالم مثل العقوبات ضد إيران، وروسيا، وكوبا، ومن قبل العراق، وأخيراً وليس آخراً ما جرى داخل مجلس التعاون الخليجي من إجراءات سعودية/إمارتية/ بحرينية ضد دولة قطر.
هذا العالم المتعثر بين سوء التوزيع الناجم عن الانفتاح، والتهديد بالفقر في حالة الانغلاق، عليه أن يعقل قراراته قبل أن تندلع حروب عالمية لا تبقي ولا تذر.
الدستور