مدار الساعة - ملاحظة من المحرر: سبق ونشر المقال منذ سنوات سوى انه يستحق النشرة مرات
بقلم: الدكتور عبدالله الزعبي
وقف الأمير تشارلز قبل ثمانية أشهر، يرتدي ربطة عنق أرجوانية، بخدود مترهلة وردية تبكي على سراب التاج الذي واعده وراوده جل العقود في حياته، يخاطب بصوت متهدج صالة دونما حضور، وعالماً كأنما أفرغ من سكانه، ومن على منصة إفتراضية يعلن، في خضم جائحة كورونا، عن مبادرة منتدى الاقتصادي العالمي في "إعادة تشغيل" العالم وضبط نفسه المتعبة (The Great Reset).
وحسب كلاوس شواب، مؤسس المنتدى، فإن إعادة الضبط الشامل أمر ضروري لبناء عقد اجتماعي جديد؛ إذ أن الجائحة أظهرت قصور النظم القديمة وعجزها عن استدامة نفسها في عدالة الفرص وتماسك المجتمع، ما يتطلب ضرورة أن يبقى الإنسان محور التقنيات الجديدة في نظام مادي-سيبراني متجدد، يوفر فرصاً عادلة للجميع، ويضمن خدمتهم، عبر دمج الأفراد وكافة فئات المجتمع ضمن شبكة مصالح مشتركة، تؤدي في نهاية المطاف إلى تحول الرأسمالية، من طور الأسهم والمساهمين، إلى صيغة جديدة تتمثل في مسؤولية جمعية لأصحاب المصلحة والمواطنين.
يلعب كلاوس شوب دوراً غامضاً في رسم ملامح المستقبل وتقرير مصير البشرية؛ إذ يبدو جاداً في هدم معاول الأمم المتحدة، وربما يبتغي الجلوس على عرشها المتهالك، ولكن بحلة جديدة عمل على غزل نسيجها منذ عام 1971، حين أسس منتداه على أرض سويسرا المحايدة. يتضح دور منتدى الاقتصاد العالمي في طبيعة العضوية التي تقتصر على الشركات العالمية الكبرى ذات الأصول المالية التي تتجاوز 5 مليار دولار، ومجموعة خبراء يعملون على قيادة التغيير والمساعدة في صناعة القرارات الاستراتيجية في قضايا البشرية الحيوية، وكذلك صياغة أجندات عالمية وإقليمية ذات أبعاد سياسية واجتماعية، مغلفة بحلة اقتصادية. كما يساند المنتدى أذرع متعددة ابتدعها، منها مجتمع شركات النمو العالمي ورواد التكنولوجيا صاحبة الاختراعات التقنية والتطبيقات الجديدة التي تؤهلها لولوج سوق الكبار، والعضوية فيها تحدد حسب مسابقة سنوية. تصبح الصورة جلية عند التمعن في مبادرات المنتدى في السنوات الخمس الأخيرة، حين تبنى بالكامل نبوءات عالم المستقبليات الأمريكي آلفن توفلر، التي بشر بها في كتبه منذ عام 1970، منها صدمة المستقبل والموجة الثالثة وتحول السلطة، وبها توقع حدوث تحول جذري في طبيعة الإنتاج وإنتقاله من صناعة المنتج والبضاعة إلى تقديم الخدمة بشكلها الرقمي، حيث تلعب المعلومات دوراً حاسماً وتؤثر في كل مناحي الحياة، وبذلك تحدث موجة تغيير ثالثة، توازي، بل تفوق الثورتين الزراعية قبل 10000 عام، والصناعية في منتصف القرن الثامن عشر، وتؤسس إلى اقتصاد معلوماتي يستند إلى انتاج المعرفة والابتكار، ويأخذ مكان اقتصاد المصنع والسوق، ويصاحب ذلك تغيير في نوع الأسرة وطبيعة المجتمع وشكل الدولة، وتحولات جذرية أخرى في منظومة العلاقات والأخلاق والعقائد، وربما يتنحى السياسي لصالح رجل الأعمال في قيادة الدولة والعالم الجديد.
أصدر كلاوس شوب كتاب الثورة الصناعية الرابعة عام 2016، تبعه بعد ذلك بعامين بكتاب آخر عنوانه: "تشكيل الثورة الصناعية الرابعة"، بالإشتراك مع الاسترالي نيكولاس ديفز، وبهما وضع تصوراً متفائلاً للتأثير الشامل التي ستحدثه التكنولوجيات الناشئة، من مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات وإنترنت الأشياء والبيانات الضخمة والبلوكتشين، التي تعتبر أهم عناصر الثورة الصناعية الرابعة، على مستقبل البشرية، كما تصوره آلفن توفلر. تعرضت تنبوءات شوب إلى صدمة عظيمة مع ظهور فيروس كورونا في الصين، أو ربما كان الجزء المخفي منها، ما دفعه إلى إعلان مبادرة إعادة التشغيل، في منتصف عام 2020، لتعمل على بناء إطار عمل مرن للتعاون الدولي وتصميم نظام اقتصادي جديد يعتمد التكنولوجيات الناشئة لحقبة ما بعد كورونا، وتمهيداً لعصر الذكاء، من أجل ابتكار حلول ابداعية تنقذ العالم من كساد عظيم وانهيار. يسير كلاوس شوب إذاً، بجرمانية متعالية، على درب الألماني الآخر إيمانويل كانط، آخر فلاسفة عصر التنوير، في إعادة رسم العقد الإجتماعي، بل يتجاوز ذلك في وضع أطر جديدة لشرعية الدولة وسلطتها على الفرد في منظومة الحقوق والواجبات كما حددها الفلاسفة الأوائل، أمثال توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو، وبالتالي نقل تلك السلطة تدريجياً من الدولة إلى الشركات العظمى عابرة القارات، وكأنما يطرح سؤالاً مؤرقاً خارج كل السياقات: هل ما زالت الدولة ضرورة للإنسان؟
يسطع؛ في الوقت ذاته، نجم يوفال نوح هراري، استاذ التاريخ في الجامعة العبرية، في الأوساط الغربية، إذ يعتبر ضمناً من تلامذة آلفن توفلر، لينادي بسقوط السرديات الكبرى والقصص التي ابتدعها الإنسان عبر مسيرته التاريخية، من مثل العقيدة والقومية والأمة والدولة، وحتى العملة والعلَم والوطن. يلخص ذلك في مؤلفاته الثلاث التي بدأ بإصدارها باللغة العبرية أولاً عام 2011، وهي العاقل، وتاريخ مختصر للجنس البشري، وأخيراً 21 دراساً للقرن 21. وحسب هراري، فإن الإنسان، أو كما يسميه الهوموسيبيان، ابتدع مرجعية السماء عندما استقر في المدن والأرياف عقب الثورة الزراعية وتمكن من اللغة وأتقن منظومة الإجتماع والأخلاق، ثم تحول إلى الأرض حيث الإنسانوية مع بروز ملامح عصري النهضة والتنوير والثورة الصناعية في بريطانيا، والآن، وفي خضم الموجة الثالثة والصناعية الرابعة، يتحول الإنسان من ذات عضوية إلى مجرد خوارزمية في عالم تحكمة البيانات والروبوتات وعقيدة الديتالوجيا. ومثلما تنبأ توفلر بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1987، وتفكك أمريكا إلى ولايات مستقلة بعد ذلك بحوالي 25 عاماً، يذهب هراري أبعد من ذلك بكثير، إذ يؤمن بإختفاء الإنسان من الأرض بعد قرن أو أكثر بقليل.
المدهش في مبادرة "إعادة التشغيل" ليس المحتوى والهدف فحسب، وإنما التسمية التي تحاكي الآلة وتقصد إعادة تشغيل الإنسان وكأنما تعرض لعطل أو عطب أو خلل، ما يستوجب سلوك الطريق الأسهل في الضغط على كبسة زر، ثم الإنتظار قليلاً للبدء من جديد. ذهنية كذلك تعود بصحاف التاريخ إلى عام 1964، حين تسلم مارتن لوثر كينغ جائزة نوبل للسلام، إذ ألقى خطاباً شخص فيه مشكلة الغرب الذي سمح لدواخله أن تضيع في الخارج، وسمح للوسائل التي يعيش بها أن تتجاوز الغايات التي يحيا من أجلها. لقد نقل الغرب العالم كله إلى عتبة المستقبل المذهلة؛ فوصل إلى قمم جديدة ومدهشة من النجاح العلمي والإنجاز، وأنتج آلات تفكر، ثم أبدع أدوات تسبر غور الفضاء وتسبح بين النجوم. تعلم الغرب أن يرفرف في الهواء كما الطيور ويسبح في البحر مثلما الأسماك، فبنى جسوراً عملاقة تمتد عبر البحار، ومباني ضخمة تقبل السماء، وبذلك قصرت المسافة على الطائرات وسفن الفضاء، وقيد الوقت في سلاسل. نحت الغرب طرقاً سريعة، مرئية وغيرها، عبر غلاف الأرض، ثم ابتكر الحاسوب والإنترنت واصطنع الذكاء، فوسم بذلك صورة مبهرة للتقدم العلمي والتكنولوجي.
ومع ذلك، يبقي الغرب فقير الوجدان، يعاني من تناقض فاضح في المصير رغم وفرة العلم ونعمة التكنولوجيا، إذ كلما ازداد ثراءً، اتسع فراغ الروح وضاقت عليه الأخلاق بما رحبت، وكلما تفوقت لديه قوة العلم على عظمة تلك الروح، إزدادت عنده الصواريخ وكثر فيه الضلال، وما زال. اليوم يحتفي الغرب ببؤس الإنسان في عصر الوفرة والذكاء، على وقع الصخب وكورونا، ومع ضجيج الديتالوجيا وإعادة التشغيل، إعادة صياغة الإنسان.
د. عبدالله يوسف الزعبي.