كتب.. د. نبيل العتوم
انتخب الإيرانيون الرئيس “الإصلاحي” حسن روحاني بكثافة، واستبشر الكثيرون خيرًا بتبوئه بجدارة منصب الرئاسة الإيراني لفترة ثانية على قاعدة اختيار شعبي وفق قاعدة ارتكاب “أخفّ الضررين “؛ لأن وصول مرشح خامنئي (إبراهيم رئيسي) معناه – حسب اعتقاد الشعوب الإيرانية المغلوبة على أمرها – العودة إلى المربع الأول في علاقات إيران الداخلية والخارجية .بالمقابل فإن العالم العربي يُدرك تماماً أن جلوس (روحاني) على كرسي الرئاسة في (نيافران) لا يضمن للجالس عليه التحكم بشكل فعلي التحكم في مفاصل السياسة الإيرانية، والإمساك بخيوطها، وتوجهاتها الخارجية؛ لأن الملفات السيادية بيد (المرشد) وزبانيته اللذين يقودون الدولة العميقة في إيران، وأن الرئيس ليس قمة هرم السلطة في النظام الثيوقراطي الإيراني الذي يُصدر الفتاوى والتوجيهات، ويرسم السياسات من الألف إلى الياء . ولكن النظام الإيراني يحاول الترويج لفكرة تبادل الأدوار وفق سيادة قرار الرئيس المنتخب بصفته صاحب القرار، وانساق البعض لينخدعوا وراء هجوم الابتسامات والخطاب السياسي الناعم للرئيس (روحاني)، واعتقدت أن إعادة انتخابه تعني بالضرورة تحولًا نوعيًا في السياسة الخارجية الإيرانية، ونسينا تجربتنا مع مرحلة حكم الرئيس ” الإصلاحي” السابق محمد خاتمي الذي بقي فترتين رئاسيتين، وأطلق المبادرة التي أشبعت جدلًا ونقاشًا، وهو مشروع “حوار الحضارات”، والذي حاول التأسيس من خلاله لمركز حوار الحضارات، وصدح مروجاً لها من فوق منبر الأمم المتحدة في مستهل فترته الرئاسية الأولى، تاركاً إياها تتفاعل، وتُحدث الكثير من ردود الفعل ،ولتنشغل بها الدوائر الرسمية، وغير الرسمية الإقليمية والدولية، وحاضرنا فيها عندما كنتُ طالباً في إيران، هنا لم تنتهِ حبكة القصة بعد، ففي المقابل ووسط حالة التراشق، والسجال الداخلي والخارجي الذي حدث، كانت المؤسسات العميقة تُجري في السر أكبر عملية تطور للبرنامج النووي الإيراني، وينفّذ الحرس الثوري ومخابراته أكبر عمليات إرهابية على الصعيد الخارجي، والذي تنصل منها خاتمي فيما بعد بحجة أنه لا سيطرة له على مؤسسات الدولة العميقة في إيران، ولا تتبع إدارته .
غادر الرئيس (محمد خاتمي)، ومع رحيله جُمد عمل مؤسسة حوار الحضارات وواكب مغادرته، إعلان (رحيم صفوي) قائد الحرس الثوري في تلك الفترة أنه كان على استعداد لقطع لسان رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ لأنه أراد تخطي الخطوط الحمراء، وتطاول على المرشد ” ولي نعمته “، ثم أفاق العالم على خبر وصول الرئيس ذا البرج الناري (أحمدي نجاد) إلى كرسي الرئاسة، منتهجًا خطًا سياسيًا عرّى فيه توجهات الدولة العميقة في إيران بشكل واضح، وانتهج سياسة مغايرة تمامًا لسلفه، مغلقاً صفحة حوار الحضارات، ومتوعداً بعودة إمام الزمان، ومتلبساً صورة نائب إمام الزمان الذي يأخذ التعليمات والأوامر الإلهية منه بشكل مباشر من خلال نظرية الاتصال، التي أثارت لغطاً كبيراً بعد الدور الدموي للحرس الثوري في ذبح الشعب العراقي ليس إلا للتعجل بعودة إمام الزمان، الذي لن يظهر إلا على أشلاء الضحايا، ونشر الدمار، وبث الفوضى العارمة، كذلك تمّ تطوير الجزء الأكبر من البرنامج النووي الإيراني، وإشغال المجتمع الدولي والقوى الكبرى عما يدور في مفاعلات نووية- غير مشروعة – تمّ إنشائها كمؤسسات موازية بشكل سري ، وجاء نجاد ليطلق تصريحه الشهير بعد تزايد الضغوط الدولية، “أن البرنامج النووي قطار يسير بلا كوابح، وبلا عودة ”، وبعدها بعامين عاد ليوجه من خلال منصة الأمم المتحدة في نيويورك خطاباً ألهمه إياه إمام الزمان ليُدخل الناس في الدين الشيعي طوعاً أو كرهاً، من فوق المنصة ذاتها التي تحدث خاتمي من فوقها عن حوارات الحضارات والتعايش والتسامح بين أتباع الديانات .
صحيح أن إيران قد اختارت (أحمدي نجاد) عضو الحرس الثوري الإيراني خلفًا لخاتمي، وهمشت (هاشمي رفسنجاني) ثعلب السياسة الإيرانية، وكلنا يعرف كيف تمضي اللعبة السياسية في إيران وفق معايير مُشددة، تضمن وصول الشخص المناسب لطبيعة المرحلة ورؤية الدولة العميقة التي يُديرها ( الولي الفقيه) مع مجموعة من النخب السياسية والعسكرية والأمنية والدينية، وليس الشخص الذي ينسجم مع تطلعات الشعوب الإيرانية طموحها، فلم تكن الدولة العميقة بمكوناتها تريد وقتذاك رفسنجاني؛ لأنه ليس الرئيس المنسجم مع مقاس الظروف والمتغيرات التي تمر بها إيران والمنطقة في ذلك التوقيت الدقيق، خاصة مع ضراوة التدخل الإيراني من خلال الأزمات الإقليمية، ووصول الرئيس بوش الابن، وحاجة الدولة العميقة في إيران إلى عقد تسوية مع أميركا، تضمن اتفاق على تحديد الدور الوظيفي لإيران، وتحسب للتيار المحافظ .
مرت السنوات العجاف على المنطقة وأزماتها، وفي صيف عام 2013 م انتخب الإيرانيون المعمم جامع الثقافتين العلمية والحوزية الدكتور (حسن روحاني)، ممثل خامنئي القوي في مجلس الأمن القومي الإيراني، وكبير المفاوضين الإيرانيين حول البرنامج النووي رئيساً للبلاد في توجه لم يكن ليعكس تغيرًا في استراتيجيات إيران بقدر ما انطوى على تغيرات على مستوى الحاجة إلى تجميل وجه إيران الذي لطخه تصرفات وسلوك الرئيس نجاد وفريقه الحكومي، والحاجة الماسة إلى تقديم لغة خطاب هادئة مستفيدة من أرشيف شعارات الجناح الإصلاحي، وفي مقدمته مفردات ” تشنج زدايى ” ” الانفراج مع الخارج ” ،إلى جانب حاجة إيران الماسة لتغيير إستراتيجيتها التكتيكية على صعيد تعديل نغمة ونبرة الخطاب بما يتناسب مع المتغيرات المستجدة، فلم يكن التغيير مصادفة، فالأمور لا تمضي في بلاد الكافيار، وفستق أكبرى نسبة لمنطق مدرسة (رفسنجاني) وفق منطق الصدفة، حيثُ دقّت الدولة العميقة بقيادة المرشد الأعلى الإيراني (علي خامنئي) وأعوانه الجرس لانطلاق ماراثون المفاوضات السرية مع القوى الكبرى للوصول إلى اتفاق نهائي، بعد أن سار قطار التفاوض اثني عشر عاماً، دون أي جدوى، حيث تقمصت طهران سلوك تل أبيب في المفاوضات حول تحقيق السلام في المنطقة، فباتت من خلال سلوكها التفاوضي تدير أزمة، ولا تسعى إلى حل أزمة، الأمر الذي مكن إيران من تحقيق تقدم كبير في المجال النووي، لا يمكن التراجع عنه، مستفيدة من تدوير النخب على مستوى الكرسي الرئاسي.
المثير أن الرئيس ” الإصلاحي ” روحاني وجد من انطلت عليه الخدعة في العالم العربي على وجه التحديد مرة ثانية بعد إعادة انتخابه لدورة ثانية في مايو/ أيار من هذا العام في مغزى ودلالات وأسباب وصوله للمنصب، وانتشرت وجهات النظر، والاجتهادات، والتحليلات حول تداعيات وتأثير، وصوله إلى سدة الرئاسة في إيران مرة أخرى، وأبعاد ونتائج ذلك بالنسبة لتحقيق انفراجات في علاقات إيران الإقليمية والدولية، متجاهلين أو غير مدركين أن روحاني لن يخرج عن حدود الدور المرسوم له؛ خاصةً فيما يتعلق بفقدانه الأهلية السياسية والدبلوماسية للتصرف بالملفات السيادية على الصعيد الإقليمي؛ خاصةً ما يتعلق بدور إيران من خلال مداخل الأزمات الإقليمية، أم علاقات إيران البينية، في الوقت الذي أطلق في مرحلة نهاية ولايته الأولى (تصريحات نارية)، وغير مسبوقة ضد المملكة العربية السعودية، ومملكة البحرين، ومصر، والسودان، والأردن …، تصريحات لا تليق برئيس دولة، وتبنى سياسات عدوانية ضد العالم العربي، ودول مجلس التعاون على وجه التحديد، وكانت تلك اللهجة مغايرة تماما لتصريح آخر له كان قد أطلقه روحاني في برنامجه الانتخابي الأول وحتى الثاني، والتعهدات ذاتها التي قطعها فور وصوله إلى السلطة .
لا شكّ بأن كلمة السرّ وراءَ تلك التحولات ليست في النخب التي تقود العملية السياسية في الواجهة، والذين هم بمثابة أدوات ديكورية تُنفذ إرادة المهندس الحقيقي للسياسة الخارجية الإيرانية، وهي الدولة العميقة بقيادة المرشد الأعلى (علي خامنئي)، فهو من يختار الرجل المناسب لكل مرحلة، والسياسة المناطة به، وحدود الدور السياسي الذي يجب أن يتبناه .
الإشكالية التي تبرز هنا، قد يقول قائل “كيف نفهم إذن بوصلة السياسة والسلوك الخارجي الإيراني على ضوء ما طرح سابقاً ؟” والإجابة على هذا التساؤل سهلة وبسيطة للغاية، فمن يريد فهم توجهات السلوك الخارجي الإيراني، ما عليه إلى أن يتابع تصريحات قائد الحرس الثوري الإيراني وفريق مساعديه، وتصريحات قادة أجهزة الأمن والمخابرات والبسيج، ومراجع التقليد العظام من تيار (الحجتيه)، ومن والاهم …. الذين يمثلون قاعدة الدولة العميقة، والتي تعكس فعلياً وبوضوح الوجه الحقيقي للسياسة الإيرانية، وتميط اللثام عن إرادة المرشد الأعلى آية الله العظمى، الذي هو القائد الفعلي المباشر لمؤسسات الدولة العميقة، والذي يُشرف بشكل مباشر على كل برامج إيران التسليحية المدمرة “البرنامج الكيماوي، والنووي، والصاروخي، والفضائي الإيراني، ويشرف بشكل مباشر على مجلس الفضاء الافتراضي الذي ينسق عمل كل هذه البرامج مجتمعة.
وفي ضوء كل ما سبق يمكن أن نفهم ما وراء التصريحات العدائية التي يطلقها قادة مؤسسات الدولة العميقة، والتي تُشكل مؤسسات موازية تعكس حالة الغطرسة الإيرانية، و هي المرآة التي تمثل فعلياً وواقعياً حقيقية السياسة الإيرانية لمن يسعى وراء سبر كُنه السلوك الخارجي وفهمها، والسعي لإماطة اللثام عن القناع الإيراني الزائف، ومن لا تخدعه “التقية السياسية” التي تجيد طهران توظيفها بشكل بارع، فإيران التي نتحدث عنها كثيرًا، وإيران التي صدعت رؤؤسنا مؤخراً بسياسة ضرورة فتح صفحة جديدة في العلاقات مع العالم العربي عموماً، ودول مجلس التعاون الخليجي خصوصاً، وأرسلت مؤخراً رسائل ود ومحبة على لسان (روحاني) إلى قادة الكويت، والأردن، وقطر … لفكّ عزلتها، وهدم التحالف الإقليمي والدولي الذي تمّ، هي ذاتها التي بثت السمّ الزعاف من أفواه أفاعي مؤسسات الدولة العميقة التي تتحكم بمسار سياستها الداخلية والخارجية، وتزعزع الأمن والاستقرار، وتمضي بلا كوابح في تدشين مسار الخط البري ليصل إلى المتوسط بلا هوادة أو رحمه، ومهما كلف ذلك .