الزراعة في الاردن قصة طويلة، لا بل رواية من عدة فصول لها بدايات معروفة لكن النهايات دائماً مجهولة وغامضة.
منذ ان وعينا الدنيا ونحن نسمع عن مظلومية المزارع والمستهلك، فالاول يبيع بتراب المصاري والثاني يشتري باغلى الاثمان، الدلالون والسماسرة وتجار الاسمدة والبذار هم من يختبئون داخل الغموض المليء باسرار وتعقيدات هي سبب الظلم المزمن.
بالطبع هناك اسباب اخرى تزيد من معاناة المزارع لكنها متغيرة تتعلق بارتدادات الاوضاع السياسية كالاغلاقات الحدودية او الامتناع عن استقبال الخضار والفواكه الاردنية نتيجة الاضطراب في العلاقات الثنائية بالاضافة الى اختناق الاسواق المحلية عندما يفوق العرض حاجة السوق بكثير.
بعد كل استغاثة من قبل المزارعين تكون الاستجابة لحظية، ثم تعود الامور الى ما كانت عليه، بما يشبه مفعول المُسكن الذي يعطى للمريض لتخفيف الألم، ما ان يزول حتى يعود الى الصراخ من جديد.
انقاذ الزراعة والمحافظة على بقائها كمصدر مهم للغذاء يحتاج الى قرار استراتيجي مدعوم بتشريع ثابت لا يتأثر بمعادلات الربح والخسارة التي تحكم باقي الانشطة.
مثل هذه النظرة للزراعة ادركها رجال رياديون عظماء مثل الشهيد وصفي التل كما ادركتها دول اكتشفت اهمية الزراعة فأولتها عناية خاصة.
وحتى لا يظل الكلام انشاءً او إنشاداً موسمياً ارغب بسرد ثلاث قصص بمثابة دروس وعِبر تجسد العناية بالزراعة.
اولى هذه القصص عن الشهيد وصفي التل، فقد جاءه في يوم مقابلة المواطنين فتى من محافظة جنوبية طالباً وظيفة بالحكومة، فسأله الرئيس التل هل لدى والدك ارض؟ فاجاب الفتى نعم، فسأله الرئيس مرة ثانية وهل يوجد مصدر ماء قريب من ارض ابوك؟ وكانت الاجابة ايضاً نعم، فقال وصفي للفتى، سوف اصرف لك راتباً شهرياً من مخصصات الرئاسة بشرط ان تذهب وتزرع ارض والدك، وافق الفتى وذهب وبدا بزراعة ارض والده وصار يأتي كل آخر شهر لاخذ الراتب من الرئاسة، بعد عدة شهور تحولت الارض الى مزرعة تنتج وتعطي مردوداً جيداً، نجاح الفتى شجع اقاربه الذين بادروا الى زراعة اراضيهم المجاورة له فتحولت المنطقة كلها الى مصدر انتاج للخضار والفواكه ومصدر دخل لاصحابها.
الفتى جاء الى رئاسة الوزراء وأبلغ المدير المالي انه لم يعد بحاجة الى الراتب، بالطبع علم الرئيس بالامر فزار مزرعة الفتى وحث المواطنين هناك على الاقبال على الارض.
القصة الثانية قالها لي رجل اعمال اردني ما زال حياً امد الله في عمره ففي عقد الستينات من القرن الماضي اغرقت بلغاريا الاسواق بالتفاح، مهددة التفاح اللبناني بالكساد، مما دفع الحكومة اللبنانية الى انقاذ التفاح بدفع ليرة لبنانية للتجار عن كل صندوق يصدرونه للخارج.
الليرة كانت آنذاك تساوي ١٢ قرشاً اردنياً فاجتهد التجار وفتحوا اسواقاً كثيرة وصدروا مئات الآلاف من الصناديق وحسب كلام رجل الاعمال فقد كان التجار يبيعون صندوق التفاح بنفس السعر الذي يشترونه من المزارع مكتفين بالليرة التي تقدمها الحكومة كدعم، حيث حقق اقل تاجر ما يفوق العشرين الف دينار خلال فترة وجيزة.
اما القصة الثالثة فقد حدثت معي شخصياً، حيث ذهبت في الثمانينات من القرن الماضي الى المانيا تلبية لدعوة رسمية لاطلاع صحفيين من بعض الدول العربية ومنها الاردن على المساعدات التي تقدمها المانيا لهذه الدول.
الزيارة تضمنت لقاءات مع رئيس غرفة التجارة ورئيس غرفة الصناعة ورئيس غرفة الزراعة، رئيسا الغرفتين التجارية والصناعية قالا لي معلومات محبطة عن جدوى التجارة والصناعة في الاردن، اذكر مثلاً ان رئيس غرفة الصناعة قال لي هل لديك امل بان تنافس الصناعة الاردنية مثيلتها السورية او المصرية او الصينية والكورية في السوق الخليجي؟ فانتم لا مواد خام لديكم وعمالتكم مرتفعة الاجر وغير ماهرة وسوقكم صغيرة.
المهم ما قاله رئيس غرفة الزراعة فقد رفع معنوياتي وجبر خاطري بعد سيل الاحباط الذي جائني من زميليه المحترمين، رئيس غرفة الزراعة قال لي ما يلي.. لديكم ارضاً غنية جداً تكفيكم وزيادة في الاغوار او في المناطق الجبلية، حيث الزيتون الذي يعتبر زيته من اغلى السلع في العالم وليس لكم سوى الزراعة كمصدر للمال والغذاء، المهم ان تعرفوا ماذا تزرعون ومتى واين تسوقون الفائض.
تلك عِبر اعتقد انها تلخص اهمية الزراعة التي يجب ان تتقدم على كل ما سواها فما تحتاجه الزراعة رجال ذوي همة ونظر ثاقب لان مثل هؤلاء الرجال من ينهضون بالوطن وهذه رسالة الى صديقي محمد داوودية فأنا منحاز اليه ومطمئن الى قدراته وشجاعته في اتخاذ القرار وحمل مسؤولية اهم قطاع في الاردن ماضياً ومستقبلاً وحاضراً طبعا، هو حمل ثقيل بلا شك لكن اكتاف الرجال الرجال شيالة للثقايل.
الرأي