مدار الساعة - كتب: حسن الفرح الشقيرات
إلى جميع الرفاق، الأحبّة ، الأصدقاء أكتب إليكم بعد أن فارقتكم، وغدوت عن دنياكم وأعترف لكم أن الرحيل لم يكن برغبة، أو قصد، وإن كان موافقاً لرغبة في النفس كامنة بعد أن جفت ينابيع التمسّك بالحياة . كنت معكم فوق الثرى، وها أنا أحدثكم وقد أصبحت تحته وإن سأل سائل ماذا وجدت أقول: وجدت الخلوة.. وجدت الراحة.. وجدت وقتاً أجلس فيه مع نفسي أراجع ما مضى أراجع مسيرة خمسين عاماً ونيّف قضيتها بين ظهرانيكم وأنظرلحالكم بعدي خمسون عاماً شهدت بين دقائقها الكثير شهدت النسيج على (النول)، والمحراث والمنجل، وقطاف الزيتون، و (تشريك) اللحم، وري البساتين من القنوات، واستخدمت أجهزة الهاتف المنزلي(الغبي)، حتى وَصَلَتِ الحال لأجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية. شهدت توزيع الراحة( الحلقوم) على المقابرعند موت أحدهم و دفنه في قبر يُحفَر بأيدي أهل القرية لا بأيدي من تستأجرهم البلدية ، وكنت أرى طقوس العزاء و الحداد التي كانت تبدأ بالمصافحة والتقبيل والعناق و تغطية الوجه ب( الشماغ) في عالم الواقع، ورأيتها رسالة على الهاتف أو مشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي. شهدت حكومات كثيرة جاءت بكتاب تكليف سامٍ وردّت بكتاب وعدت من خلاله بالكثير ولم تنجز شيئاً مما به وَعَدَت. كم طرقت أذني كلمة إنجازات ومنجزات ولكنني لم أر منها شيئا . شهدت هبّة نيسان 1989 كما شهدت أول انتخابات نيابية جاءت بعدها. شهدت حربي الخليج الأولى والثانية وسمعت عن حرب الفوكلاند و انفصال جنوب السودان وحرب عاصفة الحزم. شهدت أكثر من تجديد للطريق الصحراوي لكن الحوادث عليه لم تنتهِ أبداً، فمنذ أول حادث سمعت به والذي راح ضحيته أربعة رجال من قريتنا وليس انتهاءً بالحادث الذي وقع قبيل سويعات ( رحمهم الله جميعا) . عايشت شركة (الفوسفات) والناس تحسد من يعمل بها، وشهدتها وقد بيعت بثمن بخس وكأن بائعها فيها من الزاهدين، وعلمت أن غيرها كثير لحق بها. شهدت حملات التطعيم ضد ( الكوليرا) كما شهدت المرض الجديد (كوفيد 19) والعدد الكبير من ضحاياه . قرأت في خمسين سنة كثيراً من الكتب والمطبوعات وكان مما قرأت نقائض المثلث الأموي، ورسائل الغفران للمعري وأوراق الورد ( رسائلها و رسائله ) للرافعي وقرأت عن مراسلات الحسين ــ مكماهون ولكنني لم أقرأ أبلغ و لا أصدق و لا أطرف أو أظرف من رسالة الوكيل خلف ورد قائده ظاهر عليها، حيث اختزلا كثيراً مما يجول في الصدور. شهدت كثيراً وعايشت كثيراً ورأيت كثيراً وعاصرت كثيراً .
سمعت عن أدمغة وعقول هاجرت من أوطانها لتستقر في مواطن تؤمّن لها العيش وتؤمن بقدراتها.
سمعت عن أموال طائلة خرجت لتنمو وتزداد خارج خزائنها.
قرأت في الصفوف الأولى ( فلسطين داري) و حفظت عن ظهر قلب ( بلاد العرب أوطاني ) ولم يدر بخلدي حينها أن نمدّ أيدينا لمغتصب فلسطين ونتخذه وليّاً ونتنكر لأبناء فلسطين والدم الذي أريق على ثراها.
قرأت وتعلّمت أن المسجد الأقصى يقع في فلسطين حتى جاء من يعلمني في زمن الكورونا والتطبيع الخانع أنه يقع في الجعرانة.
تعلّمت أن المرأة شقيقة الرجل و هو سترها وكفاؤها وأن قيمتها بمحافظتها على نفسها، وما لبثت أن رأيتها سلعة تباع وتشترى، و تعلّمت أن الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها فرأيتها تعرضهما لمن شاء الرضاعة كمورد ماء على مفترق طرق.
أحبتي
أنظر للحال بعدي فأرى المشاركين في الدفن والعزاء وقد انصرفوا كمهاجر من وطنه الذي ضاق عليه.
وأرى قليل ما خلّفت ورائي راح نهباً يتقاسمه الوارثون كما تقاسمت تلك الطغمة وطني. و أرى (زوجتي) التي أصبحت (أرملتي) هي الوحيدة القابضة على جمر العهد بيني وإياها، أراها تحتفظ بحبها وترفض أن تمنح حنان كفِّها لأحد بعدي، و أراها تعيد ترتيب رثّ ملابسي كما عادتها في حياتها. زوجتي التي تعلّمتْ ما تعلّمتُه و كانت تراني وطنها فهي تحافظ على عهدي كما يحافظ جندي على موقعه بعد انسحاب رفاقه وهو لايعلم أن الحرب انتهت، لأنها ابنة جندي وزوجة جندي ولم تعش في حياتها في بيت مسؤول من الفئة العليا ممن لديه سائق و خادم ، فقد تحصنت بأخلاق الجندية، وحافظت على خندقها.
أحبتي
لم أعرف حين كنت بينكم كثيراً من متع الحياة، و كل ما عرفته منها سعيت لتحقيقه لنفسي، لذا فإنني أرحل عنكم وما في نفسي شيء من دنياكم أردت عمله ولم أفعل، إلا شيء واحد ، كنت أتمنى أن أنقل لكم لحظاتي الأخيرة ومشاعري نحوكم ، ولكن ذلك موجود في دفينة خبّأتها تحت الثرى قرب مرقدي، وعذراً لكل من آلمه رحيلي
وختاماً سلام عليكم ، سلام علينا
الأربعاء2 كانون أول 2020
.