بقلم كاتبة البادية: جميلة السرحان
تغزل أم مجحم الصّوف في مغزلها الخشبي فتبرمه برمًا بطريقة فنية جميلة، لتُعدّ (الكرابيس) فقد حان موعد (القِصاص) أي جزْ صوف الاغنام، فقد اعتدل الجو في أخر فصل الربيع، أي في منتصف نيسان ممتداً إلى نهاية أيار ، إذْ يبدأ موسم القِصاص وهم يرددون :
وذلك لتستقبل الاغنام الصيف خفيفة نظيفة فينمو جسمها جيداً، فقد اتفق أبو مجحم مع مجموعة من القواصيص (حمويّه) من سوريا لقص صوف الأغنام مقابل أجر، إذ قل عدد الرجال اللذين يجيدون عملية القص ، ونظراً لانشغال الناس بأعمالها ذهب ما يسمى ب (الفزعة) في القِصاص.
ثم أعد وأولاده بيتًا من الشّعر خاصاً لجز صوف الاغنام فيه، إذ أنه فارغ من الداخل ، فالقواصيص سيمكثون طيلة النهار من الصباح وحتى المساء وهم يعملون ، وهذا يتطلب شيئاً من الظِل بعيداً عن أشعة الشمس ( للقاصوص) وللغنم أيضاً وهي مقيّدة.
وقد أعدّوا شبْكاً خاصًا للاغنام أمام بيت الشعر ، ليتم حصر الاغنام التي سيتم قص صوفها بداخله.
ومن هناك قد أعدّت أم مجحم العدّة من (الكرابيس) وحَمْس القهوة وإعداد عدّة الشاي الخاص بالقواصيص وغيره من الحلوى والمياه.
أمّا إبنتها الكبرى البالغة من العمر الثالثة عشر عاماً فقد زادت كمية الطحين للعجن ليتسنى لأمها خبزها في الصباح الباكر.
فقد حلّ المساء وعاد مجحم ب الاغنام إلى (المَرَاح) وقد ثبّت وتد دابته بالأرض جيداً وازال عنها (الوثار) لترتاح.
ثم أقبل إلى البيت فإذا بأبيه قد جهّز جانبًا مقصّات قصّ الصوف والكرابيس ، فأخذ يساعد أبيه وأخذ يحملهن إلى مكان القصاص، إذْ بدأ القواصيص يضعون ( فِرشهم) أمام بيت الشعر ليناموا بعد أن تناولوا طعامهم ليستيقظو باكراً.
وعند عودة أبو مجحم ومجحم إلى البيت ، فإذا بأم مجحم تنهر الاولاد بأن يناموا باكراً لأنه عندهم ( قِصاص)غداً وإبنتها عيدة فقد أعدّت كلّ ما طُلب منها فهي متحمسة جداً ليوم غد ، ثم ذهبت وتمددت في فِراشها وحين تسمع أمّها تقول : (يلا يا عيال ناموا..بكرا عندنا قِصاص) ، تشعر وكأنّها مُقدمةٌ على معركة أو حرب ، ولا بد من الإعداد الجيد لها ، لكنّها لا تعلم أي نوع هي ، فتبقى تُفكر بذلك وهي تحاول تنويم إخوتها الصغار فتروي لهم حكاية (جبينه) فتنام عينيها الصغيرين مع إخوتها الصغار وجبينه.
إلا إن الوقت يسيرُ بسرعةٍ كبيرةٍ ، فسرعان ما تستيقظ على صوت أمها : (يلا يا عيدة قومي طلع الفجر) ، فتقوم عيدة واذا بالجو ما زال فيه لذعةُ برد ، فتلملمُ نفسها وترتدي جاكيتاً صوفياً صغيراً ، فتنظر هناك ب (الربعة) فإذا بأبيها قد أعدّ دلال القهوة وإبريق الشاي الكبير الحجم ، ومن هناك إذْ بالقواصيص قد استيقظو وكلّ منهم قد لف فراشة وربط حزامة على وسطه بقوة ، ثم جلسوا يتناولون الشاي.
وقد أقبلَ الشُبّان من (قصرَاهم) جيرانهم لمساعدتهم في تقييد الاغنام.
وتكون بداية القصّ من منطقة البطن بدءاً من الرقبة باتجاه الضرع ، وهذه المنطقة حساسة جداً ، حيث يتوخى فيها الحذر لأنها رقيقة وكمية الصوف فيها قليلة وقصيرة ، بعدها تُقصّ الجهة اليمنى باتجاه الظهر ، وتُقلب الحيوانات على الجهة الأخرى ، وأيضاً باتجاه الظهر وصولاً إلى منطقة الألية، وهذا العمل يحتاج إلى تركيز كبير ومهارة عالية بالاضافه إلى القوه فأي خطأ هنا سوف يودي بحياة الشاه ، إلى أن يكمل وهناك يُزيل ما يعلق في الشاه من (القَلق) وهي تلك الأوساخ التي علقت في الشاه طيلة فترة الشتاء ، وهنا عندما ينتهي القاصوص من عملية القصّ يقول بصوت عالي : هذه (طُلوق) أو هذه (خالصه) فيرد عليه أبو مجحم : عفيه النشمي ،فتتنبه لذلك عيده وإبنة عمّها فتُطلقها وعندما تنهض الشاه فإذا بها قد خفّ وزنها فتُدير نظرها للخلف قليلاً فتجفَل من منظرها الجديد ثم تنطلق مسرعة فيَطرق أبو مجحم على سطل حتى تعود للقطيع بسلام.
أمّا الصوف الناتج يجب أن يكون متماسكًا على شكل كتلة واحدة تسمى "الجِزة"، ثم تقوم عيده بلَف جِزّة الصوف جيدًا وإزالة الاوساخ العالقة بها ثم وضعها في المكان المخصص لجمع الصوف عند طرف البيت.
يعود أبو مجحم إلى بيت القِصاص فإذا بإبنته عيده تلتقط أنفاسها بالقرب من كومة الصوف وإبنة عمّها خزنه تقول لعمّها : (يا عم أبو مجحم عيده شِرقتْ) ، كانت عيده تسمع ( بالشَرقَه ) وتخافها لذا بقيت طوال الوقت باللثام لكن لم تعلم بأنها ستصاب بها ، فأسرع أبوها وحملها ونادى أحد تجار الصوف بأنْ يحرك سيارته لطبيب القرية ، وهو يحاول إزالة الشماغ من حول رقبتها ليبعد رائحة الصوف عنها ، ويسقيها الماء ، لكنها تسعل بشده ودموعها تسيل وتمسكُ بصدرها حين تسعل، فتشعر وكأنه يتشقق ولا سبيل للخلاص ، أبو مجحم يحث التاجر على الاسراع وما أن يصلا يسرع أبو مجحم وهو حامل إبنته التي تسعل بشده ، وعيده من شدة السعال زال حجابها وهي تمسكُ بطرفه لئلا ينكشف شيء من شعرها أمام الناس والطبيب ، فيدخلها الطبيب فوراً إلى الداخل ، وهناك يستفسر ماذا جرى لها ، فيروي له أبو مجحم القصة فيقوم الطبيب بعمل محلول ثم يسقيها ثم يعطيها إبرة فيهدأ سعالها قليلاً ، ثم يناول الطبيب أبو مجحم مجموعة من الأدوية وهو يقول يجب ألا تقترب من الصوف إلى أن تَشفى ، فيجلس أبو مجحم ويحمد اللّه على كل حال.
وحينما عادوا كانت أم مجحم قد أولمت للقواصيص ، فيأخذ أبو مجحم عيده ويوصلها للبيت ويوصي أمّها بها فهي غاليته ، ثم يأخذ السمن البلدي ويصبّه على الوليمه تقديراً لضيوفه وحمداً لله على قصاص أغنامه على خير.
أمّا جزز الصوف فتأخذ أم مجحم منها ما تحتاج لصنع الوسائد ( المخدات) واللحف والفراش ، حيثُ يتم وضع ما يعادل ستة أرطال من الصوف في تلك الفرش أو اللحف ، فعندما ينام الشخص لا يشعر بالبرد أبداً.
كما يجري العادة تجهيز العروس من هذا الصوف بعمل الوسائد والفرش واللحف اللازمة للبيت الجديد.
أمّا أبو مجحم فقد حمد اللّه على سلامة إبنته وعلى التمام على خير ، ثم أخذ ب (رَسَن ) دابته و ( دَرّهَشَ) لغنمه (أي ناداها) للمرعى ، فسارت خلفه وهي تتقافز فرحاً فقد خفّ وزنها وتنفست روحها .