ليس من الواضح حتى الآن، ما إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيطلع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عندما سيلتقيهما على هامش اجتماعات الجمعية العام للأمم المتحدة، على خطته الخاصة بـ”صفقة القرن”، أم أنه سيكتفي باعتبار لقاءاته بالرجلين، استكمالاً للقاءاته وجولات موفديه الاستكشافية، لا بل أننا لسنا على يقين من أنه سيتلقى الرئيس الفلسطيني في نيويورك، سيما بغياب الكيمياء بين الرجلين، بعد آخر اجتماع لهما في بيت لحم، ومع تواتر الأنباء عن مسعى إسرائيلي لمنع انعقاد مثل هذا اللقاء من ضمن مسعى أوسع لـ “شيطنة” الرئيس عباس واعتباره رجلاً “ليس ذا صلة”.
ولسنا متأكدين كذلك من صدقية الأنباء التي تسربت حول ملامح خطة ترامب لـ”صفقة القرن”، والتي قيل أنها تشتمل على حكم ذاتي موسع للفلسطينيين وصلاحيات أوسع في مناطق “أ و ب” وفقاً لتقسيمات أوسلو وخطوطه الانتقالية، فضلاً عن ترك بعض الأحياء العربية في القدس الشرقية للفلسطينيين، وإبقاء كامل المدينة “عاصمة أبدية موحدة” لإسرائيل، مضافاً إليها “رزمة مساعدات مالية واقتصادية” تساعد القيادة الفلسطينية على هضم مثل هذه الصفقة المُذلة، وتجعلها أمراً ممكناً.
لكننا في ضوء ما نعرف عن هذه الإدارة وما قرأناه من السير الذاتية لموفديها “المبدعين والأذكياء” على حد وصف ترامب للثلاثي كوشنير – جرينبلات – فريدمان، المولعين بملف إعداد هذه “الصفقة”، لا نستبعد أن تكون هذه التسريبات صحيحة في مضمونها، فواشنطن في ظل ترامب، قلصت المسافة إلى أدنى حد، بين مواقفها ومواقف إسرائيل من قضايا الحل النهائي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، حتى أن بعض موفدي ترامب ومعاونيه، أظهروا انحيازاً جارفاً لرواية اليمين الإسرائيلي وسردياته، كما ظهر في وصف فريدمان للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية بوصفه “احتلالاً مزعوماً”.
لن يمضي وقت طويل قبل أن تسدل الستارة على الفصل الاستكشافي في جهود ترامب وإدارته، وعندها سيصبح ممكناً التعرف على مضامين خطته للحل النهائي وملامح صفقته الإقليمية الشاملة، وقد لا ينتهي هذا العام، قبل أن تكون الصورة اكتملت، وعندها سيتعين على الفلسطينيين قبل غيرهم، وأكثر من غيرهم، أن يواجهوا لحظة الحقيقة والاستحقاق ... والحقيقة أنه لن يكون في جعبة ترامب ما يلبي الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين وتطلعاتهم للحرية والاستقلال، أما الاستحقاق فيتمثل في الحاجة لشق طريق جديدة لاستنهاض الحركة الوطنية الفلسطينية واستئناف مسيرة هذا الشعب لانتزاع حقه في تقرير مصيره بنفسه وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
هي أشهر قلائل تفصلنا عن لحظة الحقيقة والاستحقاق، التي ضغط عربٌ كثيرون على السلطة وقيادتها، للامتناع عن القيام بأي تحرك من شأنه أن يحبط مسعى ترامب ويقطع الطريق على “صفقته”... نحن من جهتنا لم نكن متأكدين من أن القيادة الفلسطينية كانت ستشتق طريقاً مغايراً بكل ما للكلمة من معنى، ولم نكن نتوقع أكثر من وقفة “عتب” أو لحظة “حرد”، تنتهي مع وصول أول موفد عربي ودولي، أو بمجرد التلويج بإمكان ترتيب لقاء آخر مع الرئيس الأمريكي، وهذا ما وعد كوشنير عباس به عندما التقاه أخيراً في رام الله على أي حال.
ستنتهي الفرصة التي طُلب إلى عباس منحها لأحدث محاولة لاستنقاذ مسار التفاوض والحلول السياسية في غضون أشهر معدودات، لكن من المؤكد أن محاولات تمديد الفرصة أو طلب غيرها، لن تنتهي أو تتوقف ... وستبذل جهود إضافية من أجل إقناع القيادة الفلسطينية أو إجبارها على تمديد الفرصة وتجديدها، دون أن يرتبط بذلك بأي وعود جدية من نوع التزام أمريكي بقواعد مقبولة للحل النهائي أو بجدول زمني لإنجازه ... فتقع القيادة الفلسطينية وشعبها من جديد، في إسار عملية شراء الوقت وتقطيعه، وتتكرس المقاربة الأمريكية القائمة على إدارة الأزمة بدل حلها، والاهتمام باستمرار “العملية” السلمية دون الالتزام بالسلام المبني على إنهاء الاحتلال.
غالبية الفلسطينيين تنظر بقلق بالغ لاستمرار حالة المراوحة والدوران في المربع الأول، وهي ملّت الانتظار في قاعات الترانزيت، وتريد لقطار الحل أن ينطلق صوب محطته النهائية، وهذا ما يتعين على القيادة الفلسطينية أن تعمل بهديه، ليس بعد انتهاء المهلة الممنوحة لإدارة ترامب لبلورة مبادرتها، بل وقبل ذلك، والأصل أنها فعلت ذلك منذ زمن طويل ... فمنح الفرص للمفاوضات والمبادرات قد يكون خياراً مفروضاً على القيادة الفلسطينية، شريطة ألا يمنعها ذلك من السير على مسارات بناء القوة والاقتدار الفلسطينيين، ومن بينها تصعيد المقاومة الشعبية السلمية في القدس والضفة، ضد الاستيطان والجدران والانتهاكات، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية واستيعاب الطاقات الخلاقة والمبدعة للشعب الفلسطيني في الوطن المحتل والمحاصر والشتات، والتوجه باندفاع لترميم الانقسام الفلسطيني بوصفه خياراً لا رجعة عنه، ومطاردة إسرائيل في المحافل الدولية كافة، والتوجه إلى الشعوب والمجتمعات العربية والإسلامية والصديقة، بلغة جديدة وبرامج جديدة، وطاقم جديد، غير ذاك المترهل المبثوث في المؤسسات والوزارات والسفارات الفلسطينية ... لا يجوز الانتظار على مقاعد النظار والمتفرجين بانتظار أن يكمل ترامب وإدارته إنجاز “وظائفهم المنزلية”، فمكتوب ترامب يُقرأ من عنوانه، والوقت الذي يتبدد ستتكشف أهميته القصوى عندما تحين لحظة الحقيقة والاستحقاق.
الدستور