نواصل في هذا المقال, ماكنا قد بدأناه في مقالات سابقة, عن تفريغ العبادات ومنها عبادة الصيام من مضامينها الحقيقية, وحرفها عن مقاصدها الشرعية, وتحويلها إلى مجرد طقوس بلا روح, ونتوقف في هذا المقال عند دلالات الربط الوثيق والمُحكم بين عبادات الصوم والزكاة والجهاد معاً. فهذه العبادات فرضت جميعها في السنة الثانية للهجرة وفي بواكير تأسيس أول دولة في التاريخ تقوم وفق التصور الإسلامي, كما جاء به آخر أنبياء الله ورسله محمد «ص». وهذا الربط بين الصيام والزكاة والجهاد, يؤشر في أحد معانيه على أهمية أن تمتلك الدولة أركان القوة بمكوناتها المعنوية والاقتصادية والعسكرية, وهي المكونات التي كان رمضان يلعب دوراً حاسماً في بنائها, عندما كان المسلمون يعون معاني عباداتهم ومقاصدها, فكان رمضان بالنسبة لهم شهر القوة والإنتاج, قبل أن نفرغه من معانيه, ونحوله إلى شهر للكسل والخمول, ونوم معظم ساعات نهاره, بحجة أننا صّيام, وأن الجوع يفتك بعزيمتنا, ويحول دوننا ودون القدرة على العمل والإنتاج, وهو الأمر الذي تكذبه كل واقع فترات نهوضنا الحضاري, حيث كان رمضان في هذه الفترات شهر الانتصارات والتحولات الكبرى, ففي رمضان من السنة الثانية للهجرة وقعت غزوة بدر الكبرى التي كانت أول إعلان عن القوة العسكرية للدولة النبوية الناشئة في المدينة المنورة, والتي استطاعت أن تهزم أقوى قوة في الجزيرة العربية, وتكسر شوكتها مادياً ومعنوياً. أما في رمضان من السنة الخامسة للهجرة فقد وقعت غزوة الخندق التي استطاع بها المسلمون أن يكسروا أكبر تحالف قام للقضاء عليهم, ومن بعدها لم يجرؤ أحد على غزو المسلمين في عقر دارهم, وصولاً إلى فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة, وهو الفتح الذي أزال أكبر أعداء الإسلام ودولته في الجزيرة العربية وهيأ الظروف والمناخات لانطلاق المسلمين إلى خارج جزيرة العرب.
مما تقدم نستطيع القول أن رمضان كان شهر الانتصارات العسكرية, وبذل الجهد بقيادة رسول الله «ص», وهو الأمر الذي استمر طوال التاريخ, وفي كل فترات النهوض الحضاري كما أسلفت, ففي رمضان من السنة السادسة عشر للهجرة كانت معركة القادسية التي انتصر فيها المسلمون, وكانت بداية نهاية الإمبراطورية الفارسية. أما في رمضان من عام 31 للهجرة فقد فتح المسلمون بلاد النوبة, ليفتحوا في رمضان من عام 53 جزيرة رودس أما رمضان عام 92 للهجرة فقد شهد تحولاً عظيماً بفتح المسلمين لبلاد القرم الذي شكل بداية بناء أوروبا المسلمة, حيث انتشر الإسلام ومازال في ألبانيا وكوسوفو, وروسيا وبولندا والمجر وجنوب إسبانيا, التي فتحها المسلمون في رمضان من نفس العام ليفتحوا بعد ذلك بسنتين وفي رمضان أيضاً الهند والسند بقيادة محمد بن قاسم الثقفي.
كثيرة هي الدلائل التاريخية التي تؤكد أن رمضان كان في تاريخنا شهر القوة والعزيمة والكرامة, من ذلك على سبيل المثال أنه في رمضان من عام 223 دخل المعتصم مدينة عمورية منتصراً لأمرأة اعتدى عليها علج من علوج الروم, فأطلقت صيحتها التي مازال يتردد صداها عبر الزمان « وامعتصماه», فهب المعتصم نصرة لها فاتحاً لعمورية, فأين نحن من ذلك كله؟ وأين نحن من نصرة القدس التي حررها صلاح الدين في رمضان من عام 548 للهجرة, مثلما هزم المسلمون التتار في عين جالوت في رمضان من عام 658 للهجرة حيث تم فناء جيش التتار بعد أربعة عقود من الحروب, ليفتح المسلمون في رمضان أيضاً من عام 666 للهجرة أنطاكية, ومن بعدها وفي رمضان أيضاً فتحوا أرمينا الصغرى, وفي رمضان أيضاَ فتح المسلمون بلغراد, وقبل هذه الدول والمدن فتحوا وفي رمضان أيضاً رقوسة أكبر مدن جزيرة صقلية في البحر الأبيض المتوسط.
طويلة هي قائمة الانتصارات والإنجازات العسكرية والحضارية التي حققها المسلمون في رمضان, والتي تؤكد أن رمضان ليس شهر كسل واسترخاء كما نفعل نحن الذين فرغنا عباداتنا من مضامينها
Bilal.tall@yahoo.com
الرأي