بقلم د. مهند العزة
في رائعته "مسؤوليّة المثقّفين، The responsibility of intellectuals "، فصّل الفيلسوف وعالم اللّغويات؛ نعومي شومسكي؛ في مقالته المنشورة عام 1967 الواجب الأخلاقي للمثقّفين الذي لخّصه في جملة عبقريّة تقول: "إنّ مسؤوليّة المثقّفين هي قول الحقيقة وكشف الأكاذيب". في المقابل، بوسع قارئ المقالة من خلال التحليل العكسي استخلاص سمات المُتَثيقِفين المنافقين الّذين اعتادوا التماهي مع الأكاذيب الرائجة وطمس الحقيقة درأً لاستثارة الغوغاء الهائجة.
تناول علماء اجتماع وفلاسفة ومؤرّخون متقدّمون ومتأخّرون؛ تعريف وتحليل لظاهرة الغوغاء وبيان تصنيفاتها وتأثيرها على المجتمع، فقد توسّع في بيان خصائصهم المؤرّخ وعالم النفس الجماعي الفرنسي غوستاف لوبون في مؤلّفه الشهير "سيكولوجية الجماهير"، وكذلك المفكّر والفيلسوف عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، ومن المعاصرين؛ عالم الاجتماع والمؤرّخ العراقي الراحل د. علي الوردي الّذي أشار في كتابه "الأحلام بين العلم والعقيدة"؛ إلى أنّ الغوغاء ظاهرة تعرفها المجتمعات قديمها وحديثها متحضّرها ومتخلّفها، إلا أنها تتفاوت قوّةً وضعفاً وفقاً لمدى تجذّر قيم الحريّة وثقافة الاختلاف في المجتمع.
ترتبط ظاهرة الغوغاء بالقيم الديمقراطيّة وثقافة التنوّع وقبول الاختلاف بعلاقة عكسيّة، إذ يتقلّص مجال نشاط الغوغاء وتضعف شوكتهم كلّما ازدادت مساحة الحريّات في المجتمع والعكس بالعكس، فحينما تَنكَسِف شمس التسامح واحترام الرأي الآخر، تسود ظلمة الاستئصال الّتي تعشقها الذئاب لتفرض قوّتها بعوائها الّذي يطغى على كل صوت وبأنيابها التي تنهش كلّ خارج عن فصيلتها.
الغوغاء الّذين عرّفتهم المعاجم اللغويّة والأدبيات السياسيّة أنهم: السِفلة الّذين يكثر لغطهم وصياحهم ويتبعون كلّ ناعق، ينقسمون إلى فئتين رئيسيتين وفقاً للدكتور الوردي: الغوغاء الجاهلون ويمثّلون الأغلبيّة في مجتمعاتهم ويتسمون بالانقياد والتنمّر والعنف، والغوغاء الهادئون أو ما سمّيتهم في هذه المقالة بالمُتَثيقِفين؛ الّذين يتوشّحون بثوب المثقّف الرزين الّذي قد يتظاهر بالاختلاف مع أخيه الغوغائي الجاهل في تفصيلة هنا وممارسة هناك، لكن كلا الفريقين تجمعهما ثقافة الصوت الواحد وإرهاب المخالف.
الغوغاء المُتَثيقِفون –وهذا رأي د. علي الوردي أيضاً-أشد خطراً من أخوانهم العنيفين، ذلك أنّ الغوغائي العنيف يعلن عن نفسه ويسهل تحديده وربّما تحجيمه، بينما يتسلل الغوغائي المُتَثَيقِف بنعومة إلى المنظومة القيميّة والمفاصل التربويّة للمجتمع ويكرّس التوحّش الفكري، مغلّفاً أياه بطبقة من اللغة "الكرامليّة" الموجّهة صوب إقصاء الآخر واستئصاله.
مع كلّ حملة تنمّر ضد صاحب أو صاحبة رأي مخالف تشهدها ساحاتنا الفكريّة والثقافيّة ووسائل التواصل الاجتماعي التي باتت أشبه بميادين الإعدام في زمن الدولة الرومانيّة، تتكشّف مجموعة جديدة من الغوغاء المُتَثيقِفين الّذين تمكّن عدد منهم من التنكّر في ثوب المثقّف الحداثي لرِدحٍ من الزمن، فإذا بعضهم يلوذ بصمت المتخاذل وكأن الأمر لا يعنيه مؤْثراً السّلامة والمحافظة على شبكة علاقات ومصالح مع جهات شرعنة وممارسة انتهاكات حريّة الرأي والتعبير، بينما يضمر آخرون منهم الرضى عن حملة الغوغاء العنيفين، دون أن يضطروا إلى المجاهرة بتأييدها صراحة، إذ تكفي موافقتهم الضمنيّة عليها التي يعبّر عنها صمتهم المخجل، لتجمع الفريقين في النهاية وحدة الموقف السلبي غير العابئ بجوهر القضيّة ولا بمآل الضحيّة.
الغوغاء المُتَثيقِفون في بلداننا تعرفهم من حلاوة لسانهم ومرارة مضامينهم ومراوغتهم، فتراهم يسكتون... ثم يتحشرجون... ثم يتلاعبون بصوتهم ترخيماً وتضخيما... ثمّ يهمسون لائمين ضحيّة التعبير عن الرأي ناعين عليها أنها: "أخطأت في رأيها وتوقيته وسياقه وطريقة التعبير عنه..."، تماماً مثل الغوغاء المتطرفين الّذين ينبرون للوم المغتصبة أو ضحيّة التحرّش لأنها لم تراعي العادات والتقاليد والمجتمع الشَبِق النَزِق؛ "فلم ترتدِ ملابس تستر كامل جسدها وتواجدت خارج بيتها في وقت مبكّر أو متأخر...".
ثمة صفة أخرى يتّسم بها المُتَثيقِفون من الغوغاء، ألا وهي الغباء وضعف التحليل والاستقراء، إذ لا يتعلّم هؤلاء من دروس الماضي فلا يدركون أنّهم عاجلاً أو آجلاً سوف يقعون فريسة تمّر إخوانهم من معسكر الغوغاء العنيفين الّذين هم في حالة تعطّش دائم للتغوّل والاغتيال؛ نتيجة إحساسهم بالدونيّة القيميّة التي تدفعهم للبحث المستمرّ عن ضحيّة يتمَثَّلون فيها العدوّ المتآمر عليهم وعلى عاداتهم وتقاليدهم وموروثهم... ويشبِعون حاجتهم السيوكولوجيّة لتلبية نداء التوحّش الطبيعي نحو مزيد من الاستئصال.
الدفاع عن حقوق الإنسان ومؤازرة ضحايا حريّة الرأي والتعبير؛ ليس مغامرةً تمارس خلسةً وقت قيلولة الغول بل هو واجب على كلّ تنويري صادق ومثقّف مسؤول، خصوصاً حينما تكون الحكومات في استراحة تاركةً الساحة الحريّات فيها مستباحة.