بقلم د. علي أحمد الرحامنة
هي معركة، وهي مواجهة كبرى، وربما حرب... والمنتصر فيها هو الطرف الذي طرح هدفًا محدّدًا وأنجزه: لا فصل بين قطاع غزة وبين ما يجري في القدس والأقصى والشيخ جراح وبقية المناطق الفلسطينية، وهذا ما حصل فعلا.
أما أحد أبرز المهزومين، فهو الطرف "الأقوى" عسكريا واقتصاديا وتقنيا: أراد توجيه ضربة مزلزلة لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، فإذا به يضطر لوقف إطلاق النار، دون تنازلات من فصائل المقاومة.
ولكن هذا الوصف فيه كثير من التبسيط والسطحية، رغم مصداقيته العامة.
فالقصة تبدأ من حلقة مركزية عنوانها الفجور العنصري الفاشي الإسرائيلي في كل فلسطين التاريخية، بدءًا بمناطق 48 حيث يعيش الفلسطينيون في "دولة يهودية الدولة" في مواجهة قطعان أشبه بالمليشيات المسلحة التي تعمل دون توقف على ترويع الفلسطينيين، بحراسة أجهزة الأمن الإسرائيلية ومباركتها، مرورًا بقطاع غزة المحاصر الذي هو بالفعل "سجن كبير" من فيه يعانون منذ نحو 15 عاما شتى أصناف مرارة العيش، ومرورًا أيضًا بالضفة الغربية المحتلة (والقدس جزء أصيل جوهريّ منها)، والتي أتى عليها الاستيطان والتهويد وشتى أشكال القمع الإسرائيلي، استمرارًا لطغيان العنصرية والفاشية الإسرائيلية، وهو طغيان يقرّ به كثير من المراقبين والمفكرين الصهاينة.
أما القدس تحديدًا، عاصمة فلسطين، بخصوصيتها الفلسطينية-الأردنية والعربية والإسلامية والمسيحية، فهي القلب النازف الذي احتشدت في آلامه ومعاناته معاناة كل الجسد والوجدان والعقل... ولسان حال القضية الفلسطينية، مع هذه الصورة القاتمة، كان يقول: لا جديد! لا حلّ دولتين، ولا حلّ دولة واحدة، وعمليات الاستيطان والتهويد والبطش والقتل الإسرائيلي مستمرة، وانتظروا الضمير العالمي، والدبلوماسية، وما إلى ذلك ممّا صار يثير السخرية والغضب، مثل الذي يثيره مجرد ذكر جثة "عملية السلام" الموهوم.
وبجملة واحدة: حكايا الضمير والدبلوماسية وما إليهما تستيقظ فقط بالوخز، لا بالمناشدات ولا بالصحوة المفاجئة! وطالبان والحوثيون شواهد حيّة على ذلك...
ومع ذلك كله، وعلى وضوحه وبساطته، فإن "سيف القدس" قالت أكثر من مجرّد كفى استهتارًا بنا! وعلى وقع صواريخها، ودفاعًا عن القدس والأقصى وسائر المقدّسات الإسلامية والمسيحية في مدينة السماء، نهضت وحدة فلسطينية شاملة وربما غير مسبوقة، والتحم النضال الفلسطيني بالصوت الأردني الجامع أولاً (وهذا طبيعي)، والعربي والإسلامي وصوت أحرار العالم أيضا، فأحدث إلى جانب الوحدة الفلسطينية مستجدات يصعب حصرها، لعلّ أبرزها بداية نهوض ما يُسمى "التيار التقدمي" في الحزب الديمقراطي الأميركي، وصولا إلى المناداة بتشريعات تشترط الدعم العسكري الأميركي للإسرائيليين، وتطالب باحترام حق الفلسطينيين (أيضًا) بالدفاع عن النفس... وللإسرائيليين أن يتوقفوا مليًّا أمام هذا التحوّل، حتى لو كان جَنينيًّا، وأمام موجة عالمية، غربية خصوصا، في التضامن مع أهل القضية الفلسطينية ومشروعية النضال الوطني الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال. وشهدت ساحات التواصل الاجتماعي تحولات كبرى تصبّ في مصلحة القضية الفلسطينية.
وعربيًّا، وإلى جانب "الإحراج" الذي تجد نفسها فيه الدول التي طبّعت مؤخرًا في موجة ترامب وصفقة القرن، وجد آخرون إحراجًا آخر، لعلّ وساطتهم بعلاقتهم مع حركة حماس تبيّن كيف تمّ التعامل معه، وما إذا كان اتفاق وقف إطلاق النار حمل شيئًا من ذلك، فيما رأت الشعوب العربية، وبعض الحكام، وهم قلّة، في الحدث الكبير، ما أرضاهم، كلٌّ من موقعه.
وبالفعل، عادت القضية الفلسطينية إلى سلّم الأولويات محليا وعالميا، بعدما كادت تختفي في غياهب عدم الاهتمام.
ولو كان هذا وحده إنجاز "سيف القدس" لمثّل في حدّ ذاته نصرًا سياسيًّا هامًّا.
وفلسطينيًّا، يبدو أن ربط ما يجري في القدس وفلسطين عموما بردّ المقاومة في غزة يفتح أبوابًا جديدة من الصراع واحتمالاته، ما لم يكن اتفاق "وقف إطلاق النار" أغلق هذا الباب، إلى أمد نجهله حتى الآن.
ويبدو أن حماس حجزت لنفسها مكانا في صياغة مستقبل مجريات العمليات السياسة القادمة، فيما تدرس فتح والسلطة في رام الله حالة "صعبة" فرضتها "سيف القدس"، ويواصل فلسطينيو 48 نضالهم المعمّد بالدم أيضا ضد التمييز العنصري الفاشي الإسرائيلي المتعاظم.
ولعلّ في إقامة حكومة وحدة وطنية فلسطينية ما يعفي من كثير من الصراع "الأخوي" القادم احتمالاً، ولكنه لا يعفي من فتح ملف الانتخابات التي ربما كانت واحدة من الخاسرين في هذه المعركة، أمام تغير الموازين، وكلّ هذا غيض من فيض مفاعيل "سيف القدس" التي تعمل وتعتمل!!