مدار الساعة - حين نتحدّث عن دولة المرابطين فإنّ الأذهان تتّجه مباشرةً إلى أعظم رجالها وأشهرهم: يوسف بن تاشفين، ذلك الرجل الذي أنقذ الأندلس من السقوط، وقاد انتصار المسلمين في معركة الزلاقة، وهي واحدةً من أشهر المعارك التي حافظت على بقاء الأندلس طيلة 4 قرون قادمة.
لكنّ الأذهان لا تذهب إلى رجلٍ آخر، كان هو المؤسس الحقيقي لدولة المرابطين بالأساس، ولكنّه تخلّى عن سلطته فيها لصالح الحفاظ على الدولة ولصالح توسعة الدعوة الإسلامية في غرب إفريقيا، ذلك هو أبوبكر اللمتوني.
تأسيس دعوة المرابطين في غرب إفريقيا
ينتمي أبوبكر اللمتوني إلى قبيلة لمتونة، وهي إحدى قبائل صنهاجة الكبرى في المغرب. كانت المغرب في القرن العاشر تموج باضطرابات كثيرة بين القبائل المتناحرة فيما بينها. كانت منطقة المغرب بعيدة عن مركز العلم قليلاً إلى الشرق، وإلى مركز السلطة الإسلامية القريبة في الأندلس، فقد كانت الأندلس في تلك الفترة تعاني اضطرابات عديدة أيضاً.
رحل رجلٌ يدعى يحيى بن عمر عام 1035 وهو قائد قبيلة كدالة إلى الحج، واصطحب معه أخاه أبا بكر بن عمر. خرجاً إلى الحجّ تعبداً وكذلك لمعرفة ما يدور في المشرق الإسلامي في ذلك الوقت، وعند عودتهما وأقاربهما مكثا فترةً في مدينة القيروان في تونس.
كانت القيروان أحد أهم مراكز العلم في العالم الإسلامي، وهناك طلب يحيى بن عمر من أحد كبار الفقهاء في القيروان أن يرسل معهم داعيةً ثقةً يفقّه ويعلّم الناس، خصوصاً أن العادات القبلية قد تغلّبت على تعاليم الدين الإسلامي. وهنا كان لقاؤهما مع الفقيه عبد الله بن ياسين.
تأسّست دولة المرابطين على جناحين، هما القائد الروحي عبدالله بن ياسين، والقائد السياسي يحيى بن عمر اللمتوني.
لم تكن الدعوة إلى تعاليم الإسلام هي ما يحتاجه المسلمون هناك، فقد كانوا غارقين في مشاكلهم القبليّة، فلم تجد دعوة ابن ياسين صدى كبيراً في بلاد المغرب، وهنا انتحى ابن ياسين ويحيى وأخوه أبو بكر وبعض أصدقائهم ناحيةً بعيدة في السنغال وبدأوا دعوتهم، وعندما اكتمل عددهم ألفاً بدأوا رحلتهم الطويلة. تأسيس الدولة المرابطية.
بدأ هؤلاء الألف مرابط عملياتهم بعدة غارات ضد خصوم دعوتهم في المغرب الأقصى، واستطاعوا الاستيلاء على عدة مناطق مهمة في جنوب المغرب. وفي عام 1055 قتل يحيى في أحد المعارك. وهنا خلفه في القيادة السياسية والعسكرية أخوه أبو بكر اللمتوني، الذي أكمل ما بدأه أخوه وزاد عليه كثيراً.
مع تولي أبي بكر اللمتوني القيادة كانت منطقة سجلماسة قد خرجت من سلطة المرابطين، فأعادها في أول تحركٍ له، وبعد سنوات قليلة فقط من توليه القيادة أدخل في حيازته منطقة وادي السوس، وهي منطقة مركزية، كما ضمّ أغمات.
وما هي إلا 4 سنوات فقط من توليه حتى لحق الشيخ ابن ياسين بأخيه يحيى، ولكنه قبل وفاته كان قد أمن أن يكون أبوبكر اللمتوني هو القائد العام لكل قوات دعوة المرابطين.
في السنوات القليلة اللاحقة بدأ أبوبكر في توسيع رقعة دولته ناحية الشمال، ووضع أولى لبنات تأسيس مدينة مراكش لتصبح عاصمة دولة المرابطين. وفي تلك الفترة كان هناك نجم قائدٍ صاعد هو ابن عمّه يوسف بن تاشفين، الذي كان قائد الجيش المرابطي الذي بدأ يتوسع في شمال مراكش حتى ضمّ مدينة فاس.
ربما يتبادر إلى الذهن أن أبا بكر اللمتوني قد تخلّى عن السلطة لأن هناك من ينازعه حقه فيها، لكنّ الأمر ليس كذلك.
كانت دولة المرابطين قد انطلقت شمالاً نحو العمران أكثر، بينما ظلّت قاعدة الدولة وعمودها الرئيسي في الصحراء، وتحديداً في القبائل التي كانت أوّل لبنات تأسيس الدولة.
جاءت الأخبار إلى مراكش بأن فتنةً كبرى قد وقعت بين بعض القبائل الرئيسية في الجنوب، ماذا يملك أبوبكر اللمتوني من خيارات هنا؟ هل يترك مراكش؟ هل يستدعي جيوشه من الشمال ليخمد ثورات الجنوب البعيد في الصحراء؟
أبو بكر اللمتوني
قرر أبوبكر اللمتوني التخلي عن سلطانه لابن عمّه القائد الصاعد يوسف بن تاشفين، ليعود إلى أعماق المغرب ليقضي على الفتنة.
طلّق أبوبكر اللمتوني زوجته زينب النفزاوية، وقال لها: "إذا كنتِ راغبةً في أحدٍ من الرجال فتزوجي ابن عمي يوسف بن تاشفين". كان هذا القرار لأنه أراد ألا يأخذها معه إلى الصحراء لتواجه شظف العيش وصعوبة الحياة، مقارنةً بما اعتادت عليه في بيت أهلها وفي بيته عندما تزوجها.
وبالفعل تزوّجت زينب النفزاوية من يوسف بن تاشفين، وأصبح يوسف بن تاشفين أمير المسلمين بدل أبي بكر اللمتوني، بينما عاد أبو بكر اللمتوني أدراجه إلى حيث بدأ كلّ شيء، إلى قبائل الصحراء، ليخمد الفتنة.
استغرق أبو بكر اللمتوني وقتاً طويلاً لإخماد الفتنة، وتوسيع رقعة الدعوة والدولة، فوصل إلى غانا وبقية السنغال وغيرها. وبعد ذلك عاد إلى المغرب بعد عدة أعوام.
عندما عاد إلى المغرب كان الوضع غير الوضع، والأمور غير الأمور. فقد استقرّ أمر يوسف بن تاشفين في الدولة، ودان له أغلب المغرب وأصبحت الدولة معه في عزٍّ ومنعة، وكانت خيارات أبو بكر اللمتوني إما عزل يوسف بن تاشفين وإمّا إقراره على ما هو عليه من سلطان.
كان قرار أبو بكر اللمتوني هو إقرار يوسف بن تاشفين على ما هو عليه من سلطانٍ وسلطة، وأن يعود هو ومن معه أدراجه إلى الصحراء، موسعاً رقعة نفوذ الإسلام في صحراء إفريقيا، ويقال إنّ دعوته قد وصلت من المغرب حتى السودان.
ظلّ أبو بكر قرابة 15 عاماً في الدعوة إلى الإسلام في إفريقيا، حتى لقي نفس مصير الشيخ ابن ياسين وأخيه من قبله، فقد أصابه سهمٌ نافذ – قيل إنه كان مسموماً – في حلقه، في أحد المعارك في السنغال، فلحق بأخيه وابن ياسين. وبهذا كان لعودة ابن ياسين إلى الصحراء دورٌ كبير في نشر الإسلام في قارة إفريقيا.