مدار الساعة - ربما من عوامل الثراء في التجربة الغربية، هي إتاحتها للنقد، ومنحه موضعا في بنائها الثقافي والحضاري، فالنقد ليس جريمة، واختلاف الرأي نوع من القوة، فالعقول تتشابه مع الأجساد في أن مكمن العافية في تنوع الأغذية، والاعتماد على طعام واحد ضعف، مهما كانت فائدته؛ ومن هنا أعطى الغربيون اهتماما كبيرا لمدارسهم وفلسفاتهم النقدية، ومنها “مدرسة فرنكفورت” Frankfurt School التي يمر قرابة قرن من الزمان على نشأتها.
ويأتي صدور كتاب “مدرسة فرانكفورت: دراسة في نشأتها وتياراتها النقدية واضمحلالها” لـ”ثريا بن مسمية”، والصادر 2020 في 151 صفحة، عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، ضمن سلسلة “مصطلحات معاصرة” ليقدم اقترابا من المدرسة من حيث نشأتها، وتأثيرها، وروادها، وأبرز انتقاداتها للحداثة الغربية.
النشأة والمرتكزات
تعد “مدرسة فرانكفورت” علامة فارقة في نقد الحداثة الغربية، وتفكيك أبنيتها الفلسفية والفكرية، وقد تطورت المدرسة عبر تاريخها الذي يمتد مائة عام، حتى ليبدو أن لكل مرحلة آلياتها وعلاماتها المميزة ومناهجها، فالمدرسة لم تجمد على أفكار واحدة، أو رؤية أيديولوجية ثابتة، ولكن كانت منفتحة، ومتطورة، ومستوعبة لكثير من الأفكار، والتخصصات، والمناهج.
تأسست في العام 1923 تحت اسم “معهد البحوث الاجتماعية” بجامعة “غوته” بألمانيا، أسسها “كارل غرونبرغ” -أستاذ القانون- الذي كان ينتمي للفكر الماركسي، فكان أول مركز بحثي ماركسي في جامعة ألمانيا، وقام الثري اليهودي “فيلكس فيل” Felix Weil بدعمه ماليا.
المدرسة وليدة سياق تاريخي وثقافي وسياسي مأزوم، في الفترة ما بين الحربين العالميتين، تأثرت بظهور الفاشية والنازية، والتطور في الشيوعية بعد صعود “جوزيف ستالين” للسلطة في الاتحاد السوفيتي، وانقسامات اليسار وفشل كثير من تجاربه في أوروبا، وصعود الرأسمالية وأزماتها، ومن ثم سيطرت مشاغل العشرينات، وما بعدها على أفكار المدرسة وروادها، مثل: الخوف من الحرية، والجدل القمعي للحضارة، وإنسان البعد الواحد.
كل تلك الأزمات جعل المدرسة تفكر في اتجاه نقدي يتجاوز أفكار “كانط”[1] Immanuel Kant التي ساهمت في تأسيس العقلانية الغربية، وأفكار “كارل ماركس” التي استبعدت الانسانية من حسابها، لذا اتخذت “مدرسة فرانكفورت” من النقد منهجا لها، وحاولت القيام بممارسة نقدية جذرية للحضارة الغربية؛ قصد إعادة النظر في أسسها ونتائجها على ضوء التحولات السياسية الكبرى التي أفرزتها الحداثة الغربية، وخاصة منذ “عصر الأنوار”[2]، الذي يعتبر نقطة تحول جوهرية في مسار هذه الحداثة، كما أنها رصدت الأعراض المرضية التي عرفتها المجتمعات الغربية المعاصرة، لذا كانت ولادة المدرسة متعسرة، لكن ولدت معها الروح النقدية، التي نقدت الأسس التي تقوم عليها الحضارة الغربية، كالحرية والعقلانية والتقدم العلمي والتقني.
وعندما تولى “ماكس هوركايمر” رئاسة المركز عام 1931 بدأت مرحلة جديدة في تاريخه، أو المرحلة الثانية من مراحل “مدرسة فرانكفورت”، وهو مرحلة النضج، حيث اهتمت بتحليل البُنى الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع القائم، وكان هناك اهتمام واضح بالفلسفة، وعلم النفس خاصة تحليلات “فرويد”، لكن مع وصول “هتلر” للسلطة في ألمانيا في مارس 1933 تم إغلاق المركز، نظرا لأيدلوجيته الماركسية، وانتماء أغلب أغلب رواده لليهودية، وانتقل المركز إلى جنيف بسويسرا، ثم إلى الولايات المتحدة عام 1934.
وقد تأثر رواد المدرسة بالانتقال إلى الولايات المتحدة، حيث قام هؤلاء بتحليل ونقد جذري للمجتمع الرأسمالي، حيث اتجهت نشاطات المركز إلى قضايا محددة في المجتمع، مثل: قضية السيطرة الشاملة، والقضاء على قيمة الفرد، والقهر التقني، وصناعة الثقافة، ونشر مفكرو المدرسة في تلك الفترة عدة كتب مهمة، وأخذت أفكاره المدرسة تحتل مساحة معتبرة من النقاشات في الساحة الفكرية الأمريكية والأوروبية.
وعلى الرغم من كثرة المفكرين المنسوبين إلى “مدرسة فرانكفورت”، إلا أن الاتجاه الفكري قد تشكل بفضل ثلاثة مفكرين أساسيين، كانت فلسفاتهم المحور الرئيس الذي قامت عليه الأصالة الفكرية للمدرسة، وهؤلاء “ماكس هوركايمر” و”تيودور أدورنو” و”هربرت ماركوز”، ويعد “يورغن هابرماس” فيلسوف وعالم الاجتماع الألماني من أهم منظري المدرسة المعاصرين، ومن روادها-أيضا- “إريك فروم” و”ليو لوفنتال”، و “جورج لوكاش”.
أهم المرتكزات الفكرية للمدرسة:
- كرست المدرسة جهودها لنقد المجتمع الغربي الحديث؛ بقصد كشف تناقضاته، واتخذت من التغيير الاجتماعي هدفا لها، ومن النقد الجذري منهجا.
- كشف رواد المدرسة الأوائل عن مظاهر الاستغلال والاغتراب التي أفرزها مشروع التنوير نتيجة هيمنة العقلانية الأداتية.
- هاجمت المدرسة ابتعاد الفلسفة عن دورها الاجتماعي.
- نقدت المدرسة تهافت النزعة الوضعية التي تجعل من العلوم الطبيعية نموذجا للعلمية، وتجعل من العلم والتقنية الأداتين الكفيلتين بمفردهما على إحداث التغيير الاجتماعي وخلق سعادة الإنسان.
- انتقدت المدرسة تحول أدوات التثقيف ووسائل الإعلام إلى أدوات تمارسها السلطة للسيطرة.
المرجعيات الفلسفية
كان لفلسفة “كانط” النقدية تأثير كبير على المدرسة، رغم أن الفاصل بينهما يقترب من القرنين من الزمان، كذلك كان لفلسفة “هيجل”[3] تأثير كبير، أيضا، خاصة في بعض المفاهيم، كالجدل والاغتراب، كما تأثرت المدرسة بالمنهج الجدلي عند “هيجل” حيث مكنها الجدل من اكتشاف المتناقضات الكامنة، لذا رفضت المدرسة النزعة الوضعية التي تشييء الإنسان[4]، وتجعله يشعر بالاغتراب .
لكن تبقى الماركسية ذات التأثير الأكبر في المدرسة في مختلف أجيالها، إذ كان النقد في المدرسة يحمل رغبة لتخليص المستضعفين وتحريرهم ومناهضة أشكال الهيمنة والإقصاء، فاحتل النقد مكانا بارزا باعتباره محفزا لدفع الفكر للدخول في معترك التغيير الاجتماعي، لكنها اختلفت مع الماركسية في أن البروليتاريا[5] كقوة دافعة ليست كافية لتحقيق التحرر، ويمكن القول، أنها أخذت بعض مقولات الماركسية لكنها قطعت مع تعاليمها، بل رأت المدرسة أن للماركسية بعدا يمكنه خنق البعد النقدي للتفكير.
وكان لمنهج التحليل النفسي لـ “فرويد” تأثير على “مدرسة فرانكفورت”، ومن القضايا التي ناقشتها: موقع الجنس في آليات الإغراء الحديثة وعلاقتها بالعملية الانتاجية، والمعاني الجديدة التي يتخذها الحب، لذا اتخذوا من التحليل النفسي منهجا ضروريا لتحليل المشكلات الفردية التي برزت في المجتمعات الصناعية الرأسمالية، بقصد تشخيصها وإيجاد الحلول لها.
أحيت “مدرسة فرانكفورت” الحس النقدي، باعتباره مدخلا مهما للاحساس بالحرية والاستنارة، وضرورة في عمليات التغيير والتقدم، وساعدها على ذلك تنوع الاهتمامات والتخصصات، فقد كان روادها من علم الاحتماع والفلسفة والعلوم التجريبية، ورغم أن التنوع له مزاياه النظرية والمعرفية، إلا أنه شكل أرضية خصبة للصراع الداخلي والتناقض، فالمدرسة لم تكن ذات أسس نقدية واضحة المعالم، أي أنها لم تؤسس لنفسها بنية نقدية خاصة، بل استقت منهجها من عدة مناهج، فكانت مزيجا بين فلسفة “هيجل”، و”ماركس” و”كانط”، وكان جسمها النقدي غير متجانس لا فكريا ولا منهجيا، لذا وصفها بعض خصومها بأن مفكريها هم: ماركسيون وجوديون متمركسون، وأنهم عاطفيون مصابون بالتشاؤم الحضاري والعدمية التاريخية التي حاولوا الفرار منها بأجنحة احلامهم الغامضة.
ويلاحظ أن معظم رواد المدرسة قد نشأوا في عائلات يهودية ميسورة، بل إن النشأة الأولى للمعهد كانت بمنحة سخية من أحد أثرياء اليهود، فكان الشعور اليهودي بالاغتراب، في تلك الفترة، حاضرا في وعي المدرسة، ولعل الرجوع إلى الماركسية كمصدر للنقد، كان بسبب اهتمام “ماركس” بمفهوم الاغتراب، وهو ما يتوافق مع مشاعر اغترابهم كيهود في المجتمع الألماني، لذا قرروا الثورة الشاملة، ولكنها ثورة مشبعة بمعاني إيديولوجية عنصرية، وبأفكار فلسفية ومعاني إنسانية شمولية.
ويلاحظ أن الفكر النقدي لـ”مدرسة فرانكفورت” وحد بين الفلسفة والثورة بانتهاجه مسلكا نقديا للمجتمع الصناعي الرأسمالي، معتبرا أن الفكر الفلسفي عليه مقاومة العقلانية الصناعية التي تستغل الأفراد، وتجعل المجتمعات جهاز إنتاج خالٍ من أي إبداع فردي أو خاص، لذلك يمكن القول أن مقولة “التشيوء والاغتراب” تكاد تكون الاطار المرجعي الأصيل لفلاسفة المدرسة، لذا كانت فلسفتهم ثورية بالأساس، ورغم ذلك لم تستطع أن تُقيم منهجا محكما متناسقا، فبقيت فسلفة حرة مفتوحة، وتعبر عن نفسها في مقالات متفرقة لا في بناء متراص مترابط، وربما ذلك بسبب تنوع اهتمامهم ومواهبهم وتمزقاتهم، وحرصهم على البعد عن صورة الفيلسوف بمعناها الحرفي، فهم ذوو طبيعة ثورية قلقة وهذا ما جعلهم يخوضون في تناقضات عصرهم وأزماته وأمراضه كمحاولة لتشخيصها.
ويلاحظ أن عزوفهم عن ممارسة السياسة كمبدأ أصيل في ثورتهم، جعلتهم يماهون بين النظرية والفعل الثوري، فتصورا أن مقالاتهم ونظرياتهم هي أعلى وأقوى الممارسات الثورية، كما أن المدرسة أسقطت من حسابها الشرق، وتمركزت حول الذات الغربية، بعدما انصب نقدها على انتاجات العقل، خاصة في عصر الأنوار.