د . عودة أبو درويش
لم يكن مقهى حمدان في عمّان ،عاصمة الامارة في شرق الأردن ، مجرّد مكان يذهب اليه من يريد تناول كأس من الشاي أو القهوة ، ولا هو ساحة من أجل اللعب في الورق أو النرد أو لإضاعة بعض الوقت عند من تقاعدوا من الوظيفة ولا يجدوا ما يفعلون ، مثل المقاهي التي تنتشر الآن في كلّ مدن الأردن . انّما كانت المقهى مكان جامع للسياسيين والمثقّفين والشعراء والكتّاب وأصحاب الفكر والرأي . يتحاورون في شؤون البلاد العامّة ويتناقشون من أجل هدف واحد هو مصلحة البلاد التي تنشد الحصول على الاستقلال ، والخلاص من الوصاية الأجنبيّة البريطانيّة والاهتمام بالعمل على تطوير كلّ مناحي الحياة في البلد الفتي>
عقد في مقهى حمدان أوّل مؤتمر وطني أردني ، تنادى له شخصيّات وطنيّة ، سياسيين وشيوخ عشائر ومثقفين و رجال دين من كلّ مدن الامارة ، بعد أن صاغ حسن خالد أبو الهدى في حكومته الثانية منتصف عام 1928 ما عرف بـ ( قانون انتخاب أعضاء المجلس التشريعي)، الذي قسّم الإمارة إلى أربع دوائر انتخابية لها عدد من النوّاب: البلقاء، عجلون، الكرك، ومعان. وأصدر دستور البلاد ( القانون الأساسي لشرق الأردن) ، والذي استمدت معظم مواده من المعاهدة الأردنية- البريطانية ، واعتبرها الأردنيون مقيدة للحريات العامة والديمقراطية . وأعلنت المعارضة الشعبية رفضها لقانون الانتخاب الجديد وللقانون الأساسي وأصدرت الميثاق الوطني.
في المقهى ، ومنذ أن بدأت الحرب العالميّة الثانية تشكّل فريقين ، أحدهما يؤيّد دول المحور والثاني يؤيد الحلفاء . كلّ فريق كان يحاول أن يصوغ مبررات وقوفه الى جانب من يؤيّده . فانتصار دول المحور برأي مؤيديهم سيؤدّي الى خروج البريطانيين من نادي الدول الكبار ، وستنال الدول التي تستعمرها بريطانيا الاستقلال بسرعة ، ولكنّ مؤيدي الحلفاء يتمنون النصر لها ، لأنّها ستكون عونا للدول التي تحكمها وحليفا قويّا . وكانت الأخبار تأتي تباعا ، فتقدّم ألمانيا واليابان على كلّ الجبهات جعل المحور في المقهى يعلن الأفراح والليالي الملاح ، ويستهزأ بالبريطانيين الذين اختبأوا في الملاجئ لأكثر من سنة ونصف خوفا من الغارات الألمانيّة . ولكن انتصار القوّات السوفيتيّة في معركة ليننغراد وغيرها ، جعل حلفاء المقهى يزغردون وكأنّهم هم المنتصرون ، ويتندّرون على المحور ويذكّرونهم بما قاله هتلر عن العرب بالرغم من علاقته مع رشيد عالي الكيلاني في العراق الذي رفض اغلاق السفارة الألمانيّة في بغداد وأمين الحسيني في فلسطين، الذي وعده هتلر بالوقوف الى جانب العرب.
انتحر هتلر ودخلت القوّات السوفيتيّة برلين. هذا ما صاح به أحد الحلفاء بعد أن انتهى مذيع هنا لندن من قراءة خبر عاجل . عمّ صمت رهيب على المحوريين وحزن عميق لأنّهم لن يرو بلادهم متحررة من الاستعمار البريطاني ، وسينسى قادة الانجليز وعودهم بمنح الأردن الاستقلال ، وسينفذون وعدهم لليهود بإقامة دولتهم في فلسطين . تنبّه حلفاء المقهى لأنّهم كانوا قساة على المحوريين . توّجهوا الى طاولتهم واحتضنوهم ، فهم جميعا في الهمّ شرق .
ليس لمقهى حمدان الآن أثر، ولم نعد نعقد مؤتمرات وطنيّة ، بل كثرت المقاهي التي فيها يجتمع مؤيدي الفرق الرياضيّة الأوروبيّة. فيتصايحون ويشتمون بعضهم بعضا لأنّ ريال مدريد تغلّب على برشلونة ، أو غيرها من الفرق الرياضيّة.