بقلم ماكس بوت
مرَّ ما يقرب من عامٍ منذ أن اغتالت غارة جوية أمريكية اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، في العاصمة العراقية بغداد. والآن يجب أن تجعلنا التداعيات التي وقعت إثر تلك الضربة –أو التي لم تقع- حذرين في تقييمنا لتأثير مقتل محسن فخري زادة، عالم الأسلحة النووية الإيراني البارز يوم الجمعة 27 نوفمبر/تشرين الثاني شرق العاصمة الإيرانية طهران.
كان أصحاب النهج المتشدد حيال إيران، مثل مستشار الأمن القومي السابق لترامب، جون بولتون، قد أعربوا في أعقاب اغتيال سليماني في يناير/كانون الثاني عن أملهم في أن يفضي مقتل سليماني إلى إجبار إيران على كبح جماح سلوكها العدواني في المنطقة، وذهب بعضهم إلى حد الطمع في أن يؤدي إلى "تغيير النظام في إيران". لكن على الناحية الأخرى، أبدى كثير من منتقدي إدارة ترامب مخاوفهم من أن اغتيال سليماني بهذه الطريقة قد يجر المنطقة برمتها إلى هاوية الحرب.
ومع ذلك، فإن أياً من التنبؤات لم يقع. فقد اقتصر رد إيران على مقتل سليماني على إطلاق عشرات من الصواريخ على قاعدتين أمريكيتين في العراق، دون قتل أي جنود أمريكيين، سواء أكان ذلك عن قصد أم كان بمحض الصدفة (ينبغي أن نتذكر أنها تسببت في عديد من إصابات الدماغ لأفراد القوة الأمريكية هناك). وقد أرضى ذلك إيران، على الأقل في الوقت الحالي، كما أعطى كلا الجانبين مخرجاً لتجنب التورط في مزيد من التصعيد.
لكن، في الوقت نفسه، لا يوجد دليل على أن مقتل سليماني قد صرف إيران عن مخططاتها الإقليمية، فقد حل محل سليماني نائبه العميد إسماعيل قاآني، واستمر فيلق القدس في عمله المعتاد في لبنان وسوريا والعراق واليمن، حيث يقع نفوذه.
ولتوِّه كان قاآني في زيارة إلى العراق لإخبار القوات التي تعمل بالوكالة عن إيران بتجنب أي استفزازات ريثما يقوم ترامب بتقليص عدد القوات الأمريكية وهو في طريقه للخروج من منصبه. هذه النصيحة –أو "الأمر" بالأحرى- جرى الانصياع لها إلى حد كبير، رغم الهجوم الصاروخي الذي وقع على المنطقة الخضراء في بغداد الأسبوع الماضي والذي لم يسفر عن وقوع إصابات.
باختصار، تصدرت وفاة سليماني عناوين الأخبار وأطلقت التنبؤات لكنها لم تغير على الأرض سوى القليل. والآن، الشيء نفسه على الأرجح أن ينطبق على اغتيال فخري زادة، وذلك على الرغم من تعهدات طهران بالانتقام من "النظام الصهيوني المغتصب". (وكالعادة، لا تدعي إسرائيل مسؤوليتها ولا تنكرها).
الرئيس الأمريكي ترامب، من جانبه، سارع إلى إعادة نشر تغريدة للصحفي الإسرائيلي، يوسي ميلمان، والتي قال فيها إن وفاة فخري زادة تمثل "ضربة نفسية ومهنية كبيرة لإيران"، لكن لو كان كلّف نفسه قليلاً للنقر على المقال الفعلي الذي أحال إليه في صحيفة Haaretz العبرية، لقرأَ في سطوره الرأي الذي ذهب إليه ميلمان حقاً من أنه "على الرغم من الضربة المعنوية، فإن إيران لن تعدم إيجاد عالماً نووياً موهوباً مثل فخري زادة المُغتال".
وهذا صحيح بالتأكيد: وفاة فخري زادة لن تكون ضربة قاتلة لبرنامج إيران النووي أكثر مما كان سينتهي "مشروع مانهاتن" [المشروع الأمريكي لإنتاج أول قنبلة ذرية أثناء الحرب العالمية الثانية] لو توفي مديره العلمي روبرت أوبنهايمر، الذي كثيراً ما كان يشبه به فخري زادة بالنسبة إلى إيران، خلال الحرب العالمية الثانية. واقع الأمر أن برنامج إيران النووي يقوم على منظومة بيروقراطية ضخمة، يمكنها أن تنجو بسهولة من زوال أي قائد لها والمضي قدماً في طريقها.
من جهة أخرى، انتشرت تكهنات كثيرة بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أمر بعملية الاغتيال لتقويض أي محاولات لإدارة بايدن لإعادة إحياء الاتفاق النووي الذي وقع في عهد أوباما، والذي يمقته نتنياهو. وهو الرأي الذي أشار إليه مسؤول سابق في وزارة الخارجية الأمريكية في تغريدة على موقع تويتر، إذ كتب: "سبب اغتيال #فخري زادة لم يكن اعتراض سبيل إيران لتطوير إمكاناتها العسكرية، بل كان قطع الطريق أمام الجهود الدبلوماسية".
ربما كان الأمر كذلك، لكن جولة سابقة من عمليات اغتيال لعلماء نوويين إيرانيين –أسفرت عن مقتل أربعة وإصابة واحد بين عامي 2010 و2012- كانت قد ساعدت في جعل الحل الدبلوماسي أكثر، وليس أقل، احتمالية. فقد أفضت عمليات الاغتيال هذه، إلى جانب منظومة عقوبات دولية قوية وسلسلة هجمات إلكترونية أمريكية إسرائيلية على منشآت نووية إيرانية (أشهرها هجمات فيروس "ستوكسنت" التي استهدفت منظومات التحكم في أجهزة الطرد المركزي)، إلى تكثيف الضغط الواقع على إيران، ومهّدت الطريق أمام الإنجاز الدبلوماسي لإدارة أوباما في عام 2015.
في حديثٍ له مع الصحفي الإسرائيلي رونين برغمان، قال مايكل هايدن، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية من 2006 إلى 2009: "إن موت هؤلاء الأشخاص كان له تداعيات هائلة على البرنامج النووي الإيراني"، ويذهب برغمان إلى أن عمليات الاغتيال هذه ألحقت الضرر بإيران من ثلاثة طرق: "أولها، فقدان خبرات معرفة الكيفية Know-how التي كانت متوفرة في أذهان القتلى، والتأخيرات الكبيرة في البرنامج على إثر الحاجة إلى تعزيز الإجراءات لمنع اختراق الاستخبارات الغربية مرة أخرى، علاوةً على التخلي عن البرنامج من قبل الخبراء الذين يمتلكون الخبرات والمعارف الضرورية خوفاً من تعرضهم لمصير مماثل".
وقد ينطوي الأمر بالفعل على مفارقة إذا أفضى اغتيال فخري زادة إلى فرض مزيد من الضغط على إيران لإبرام صفقة مع إدارة بايدن التي يعمل بها عديد من المسؤولين الذين تفاوضوا مع الجانب الإيراني على الاتفاقية السابقة، إذ إن ذلك قد يكون آخر شيء يريده نتنياهو أو ترامب، ومع ذلك فإنه ثمة حاجة إلى "اختراق دبلوماسي" للتفاوض مرة أخرى على وقف البرنامج النووي الإيراني.
إذا كان التاريخ الحديث قد علمنا شيئاً، فهو أن إيران يمكنها الاستمرار في تطوير الأسلحة النووية، مهما كان عدد العلماء الذين سقطوا منها، أو عدد أجهزة الطرد المركزي التي تخرّبت بفعل الهجمات الإلكترونية، أو حتى بمقدار الضرر الذي يلحق باقتصادها بسبب العقوبات. فمنذ انسحاب ترامب بحماقة من الاتفاق النووي في عام 2018 على الرغم من امتثال طهران لبنوده، زادت إيران مخزونها من اليورانيوم بمقدار ثمانية أضعاف، وحتى اللجوء إلى الضربات الجوية لن يقضي على البرنامج النووي الإيراني، لا سيما إذا استحضرنا حجم المخاطرة باندلاع صراع إقليمي مفتوح.
في الختام، أقول إن الطريقة الوحيدة لوقف البرنامج النووي الإيراني هي عن طريق اتفاق نووي جديد. وربما يؤدي موت فخري زادة إلى تمهيد الطريق أمام اختراق دبلوماسي بين الطرفين وجعلِ التوصل إلى اتفاقية جديدة أكثر احتماليةً لا أقل.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأمريكية.
ترجمة عربي بوست