لم يعلم ابن القدس مولدا والسلط نشأة، الطامح أن يكون استاذا في الجامعة أنه سيترك أثره على أجيال عربية واسلامية لعقود عبر ترؤسه لجان إعداد المناهج ومساهمته بمشاريع تطوير المناهج في الاردن وعدة أقطار عربية.
اسحق الفرحان المفكر ، عراب المناهج الأردنية، الرجل الذي يتهمه الخصوم - من يسار وقوميين ودعاة مدنية مزعومة - بأنه قام بأسلمة المناهج الدراسية في الأردن، وأنهم لا زالوا يعانون مما فعله، وتجرأ بعضهم بالافتراء عليه أنه ألغى مادة الفلسفة من المناهج، بينما ألغيت بعد تركه الوزارة بعامين، وما خصومتهم معه إلا لأنه إسلامي ينتمي لجماعة الاخوان المسلمين ليس إلا، أو لخصومة منهج بعضهم مع الإسلام ذاته.
" ثبات على الإيمان والمبدأ "
" سأسألك عن ذلك يوم القيامة "
الفرحان رجل الكيمياء والتربوي الذي أعاد التوازن لمعادلة التربية والتعليم في الأردن، ويوم كلفه وزير التربية بشير الصباغ بمهمته في إعداد المناهج الدراسية قال له ( سأسألك عن ذلك يوم القيامة ) أيام كان لا يزال في رجال الدولة بقية إيمان وخشية ويحسبون للقيامة حسابها، فكان اسحق خير مؤتمن.
مع بداية حقبة الستينيات من القرن الماضي مضى اسحق يبني جيلا عبر مناهج صيغت في عشر سنوات، وقامت وفق وصفه "على مرتكزات أربعة أسس هي الأساس الفلسفي الذي يرتبط بعقيدة الأمة، والاساس الاجتماعي الذي يرتبط بالمجتمع، والاساس المعرفي الذي يرتبط بحقائق العلم، والاساس النفسي الذي يرتبط بنفسية الطالب. وقد عملت على مراعاة هذه الأسس في تطوير المناهج حرصاً على أن تكون فلسفة المناهج تأكيداً على فلسفة الأمة "
كانت مناهج الأردن - بضفتيه - قبل ذلك موروثة عن الاستعمار البريطاني، فنظم اسحق عقدها، وأصلها، وأشرف عليها، وأعاد بناءها، وانتهت بإعداد ثلاثمائة كتاب، تربط الطالب بحضارته وقيمه الاسلامية، وتبث فيه روحها.
« وطنك أولى بك »
في العام 1971 يحزم اسحق حقائبه ويحجز تذاكره استعدادا لمغادرة الاردن الى السعودية متعاقدا ليعمل ككبير خبراء اليونسكو ، فيستدعيه رئيس الوزراء المكلف وقتها وصفي التل ليعرض عليه المشاركة في الوزارة، فيرد اسحق: والله انا متعاقد وعلى سفر: فيجيبه التل: وطنك اولى بك وانا اعجبت بك عندما سمعت محاضرة لك، وعرض التل عليه تولي وزارة الأوقاف، فيشترط اسحق تولي وزارتي التربية والاوقاف "لان الاوقاف تربي الناس روحيا والتربية تربي الناس علميا وثقافيا" كما يرى اسحق، وضحى اسحق لأجل وطن وبناء أجيال
« تربية بالمواقف لا التنظير "
خلال وزارته يتلقى الفرحان كتاباً من اليونسكو يُطالب بإدخال تعديلات على بعض المناهج التعليمية التي تثير الكراهية ضد تصرفات اليهود على حد وصفهم، على إثرها شكل الفرحان فريق عمل استعرض عدداً من المناهج التعليمية في «إسرائيل» خصوصاً في كتب الاجتماعيات واللغة العبرية، فوجد أنهم يدرِّسون طلابهم «أن حدود «إسرائيل» من النيل الى الفرات، وأن نهر الأردن يفصل أرض «إسرائيل» الشرقية عن ارض «إسرائيل» الغربية (أي أن المملكة الأردنية جزء لا يتجزأ من «إسرائيل»)، وأن من مدن «إسرائيل» عمان وجرش»
عندها رفض الفرحان رفضاً قاطعاً طلب منظمة اليونسكو وأعد تقرير من عشر صفحات يقول فيه «اجعلوا «إسرائيل» تغير ما في مناهجها واكتبوا لنا بعد ذلك لعلنّا نعيد النظر، يوم كان في الوزراء أصحاب رأي وشجاعة وانتماء وقبل ذلك أصحاب إيمان ومبدأ.
يمضي الرجل ثابتا على المبدأ ينسج مناهج التربية بالمواقف أيضا فيقدم استقالته من الحكومة التي رأسها زيد الرفاعي بعد أن علم أن الحكومة ستشارك بلقاء مع الصهاينة اواخر سنة 1973 خلال مؤتمر دولي للقضية الفلسطينية، يروي الفرحان ما جرى مع رئيس الوزراء ( قلت للرئيس الرفاعي: هل سيتم اجتماع، قال لي: سيتم اجتماع واحد وهذه قضية شكلية ثم قد لا يحدث بعدها اي اجتماع لسنين، فقلت له: انا لا اشترك في حكومة تفاوض اليهود، قال لي: جلسة واحدة وانت لا دخل لك انا سأذهب، قلت له: لا اشترك وهذه استقالتي اقدمها بحيث اذا لم تقبل ارجو ان تلتمس من جلالة الملك قبولها، واذا لم تقبلوها سأجلس في البيت ) وهكذا يوم كان الرجال مواقف لا مناصب.
يكمل الرجل مسيرته رئيسا للجامعة الأردنية يبني مسجدها ويبني كلية شريعتها، ثم يطور مناهج التعليم في سلطنة عمان فيما اعتبر ثورة خضراء نقلت التعليم هناك الى مراكز متميزة، بصمات الفرحان وصلت مناهج السعودية وقطر والامارات، ومنارات المعرفة التي شارك إشعال جذوتها وصلت باكستان وتتارستان وماليزيا وغيره، ويوم وفاته كانت الكلمات تلقى عنه في كل قطر حل فيه أثره.
" المستقبل في قاعات المدارس والجامعات "
من كلماته المعبرة عن فكر ورؤية بعيدة " إذا أردت أن تطمئن على مستقبل الأمة فأدخل إلى قاعة التدريس في المدرسة والجامعة " وهكذا أمضى الرجل حياته، حتى لما نازعته السياسة العمل كان العمل التربوي يغلب.
اسحق الفرحان رحمه الله، رجل جاء على قدر، أدى الأمانة، فهل أنزلناه منازل كرام القوم في حياته وبعد مماته ...