بقلم : المهندس عادل محمد مساعده*
سَلَامٌ عَلَى قَلْبِ يَحْيَا بَيْنَنَا وَالْيَوَمَ فِي حِفْظِ الْرَحْمَنْ أخِي الْحَبِيبْ عَبْدَ الْكَرِيمْ مساعده "أبُو عَلاءْ ...أرْبَعونَ لَيْلَةً بِكُلّ قَسْوَتِهِا وَمَرارِاتِها، وآلامِهِا وعَذَابَاتِهِا، وَلَهِيِبُ الْنَفْسِ مُشْتَعِلٌ، مُنْذُ حَمَلْنَاكَ بِأرْوَاحِنِا وَكَفَنّاكَ بِقُلُوبِنِا، وَوَدَعْنَاكَ بِدُمُوِعِنِا، وَتَرَكْتَنَا يُعْتِمُ عَلَيْنَا الْمَكَانْ، وَيُضِيئُ قَبْرَكَ الْنُورْ، وَرُوحُكَ الْطَاهِرةَ الْنَقِيّةَ تَعِيشُ فِي الْوُجْدَانِ الْمَكْسُورْ، وَالْقَلْبِ الْمَكْلُومْ، وَرُوُحُي الْمُتْعَبةُ تَتوَشَحُ بأرْدِيةِ الْحُزْن، تَلُوذُ خَلْفَ جِدَارِ الْصَمتْ تُحَدِقُ فِي الأفقِ البَعِيدِ عِلَّهَا تَعْثَرُ على ضَوءِ صَبَاحٍ جَدِيدٍ يُعَزِيهَا ويُخَفِفُ عَنْهَا آلمَ الفِرَاقْ.
أرْبَعُونَ لَيْلَةٌ لَمْ يَنَمْ فِيهَا ذِهْنِي مَعْ جَسَدِي، مَرّتْ ثَقِيِلَةً وَأنَا أحْتَضِنُ جُرُوحِي، وَبقَايا رُوحِي المُبَعْثرة بَيْنَ أنِينِ الَلْيلِ وَوَحْدِتِه، وَبَيْنَ مَرَارِةِ الْشَوْقِ وَلَوَعَتِه، وَالألَمِ الْذِي كَانَ يُطبقُ عَلَى رُوحِي ويَسْحقُ قَلْبِي وَقْتَ الْرَحِيلْ، لا زَالَ يُؤلِمُنِي لِيَخَطِفَ مِنّي كُلَّ شُعُورٍ جَمِيلٍ، وَيَقْتُلَ فِي نَفْسِي كُلَّ تَفَاصِيلِ الَفَرَحْ.
ليالٍ عَبسَتْ بِوجِوهِنا فِيهَا الأقْدَارْ، مُنْذُ لَوَحَّتْ لَنًا فِيها الْحَياةُ بِكُفُوفِ الْوَدَاعْ، فَكَانَتْ مُؤلِمةً وَقَاسِيةً، لَمْ تُرَاعِ قَلبَ أبٍ ولا دَمْعَةَ أخٍ وَلا صَيْحَةَ أخْتِ ولا فَجِيعَةَ رَفِيقَةَ عُمْرٍ وَلا لَوْعَةَ ابْنٍ أو حَاجَةَ أبنةٍ وَلا ألَـمَ أهْـلٍ ومُحِبِينَ وأصْدقاءْ، وَكَمْ تَمَنَيتُ أنْ أَنْثَـرَ مَا تَبَقَى مِنْ عُمـُري أمَامَ طُهْرِ قَلْبِكَ وَصَبْرِكَ وَعِزَتِكَ وَكِبريائِكَ لأكُونَ أنا صَاحبُ المَشْهَدَ أيُّهَا الْحَبِيبْ .
فِي هَذَا الْصَبَاحِ الْحَزِينِ كَمَا هِيَ الأيَامُ الْتِي غِبتَ عَنَّا أيُّها الْفَارِسُ الْشَهمْ ، وَقْفْتُ أمَامَ ذَلِكَ الْطَريقِ الْذِي شَهِدَ تَارِيِخَ طُفُولِتِنا وَذِكْرَيَاتِنا وَأحْلامِنَا وَصَمَتُ طَوِيلاً، فَلَمْ أجْدُ فِيِه إلا بَقَايَا عُمُرٍ رَحَلَتْ، وآثارَ خُطَىً تَبْكِي رَحِيلَ فارسِها، كُلُّ مَا حَوْلِي يُوحِي بالْذُبُـولْ ، ذِكْرَيَاتٌ مُحَطَمَةٌ تَقِفُ عَلى حُدُودِ الْمَاضِي لتَمْنَعَنِي حَتَى مِن اسْتِرْجَاعِ الْفَرَحـَة الْتِي كَـانتْ تَمـْلأُ قَلـبَـكَ الْكَبِيـرْ عِنْـدَمَا كـَانَ يَضُمُنَا صَدَرُ الْمَكَانْ.
لِمَ أسْرَعْتَ الْرَحِيلَ يا حَبِيبِي؟ وَتَركْتَني تَائِهَاً يَعْصِفُ بَقاَيَا جَسَدَي وَجَعُ الْحَنِينْ وَظَمَأُ الْوَجْدْ، أحْمِلُ هَمّي وَألَمْلِمُ حُزْنِي، كُنْتُ آمَلُ أنْ أجْلِسَ مَعَكَ، أنْ تُسْمِعَني هَمْسَ حَنِينِ كَلِمَاتِكََ التي كَانتْ تَفِيضُ حُبَاً وَحَناناً عِندَ كُلِ اتْصَال أو لِقَاءْ " هَلا يا عيوني ، هَلا بِالَحَبِيبِ "، لَكّنَك تَرَجَلْتَ مِن دُونَ أنْ تُخْبِرَني، فَتَقَصَدَنِي الْحُزْنُ وَلَمْ يُغَادِرْ.
في غِيابِك سَيِدْي صَارَ القَمرُ مُعْتِمَاً، والشَمْسُ مُظْلِمَةً، الْحَيَاةُ صَحْرَاءٌ قَاحِلَةٌ بِلا أزْهَارٍ ولا مَلامِحَ ولا ألَوَانْ، اسْتَحَالَ الْرَبِيعُ خَرِيفَا، الورود شَاحِبٌ لَوْنُها مُصْفَرةٌ أوْرَاقُها، وأشْجَارُ الْزَيَتُونِ قَصَتْ جَدَائِلَهَا تَبْكِي مَنْ كَانَتْ تُعَانِقُ أنْفَاسُه وَجَهَ الْمَكَانْ حِينَ كَانَ يَخْطُو نَحوَ والدِنا الصَابر كيْ يَطْبعَ على جَبينه قُبْلَةَ البرِّ والاجْلال والاكبارْ، فَكمْ هِيَ مَرِيرةٌ لَوْعَةُ الأشْوَاقِ، وَكمْ هِيَ بَارِدَةٌ وَكَئِيبَةٌ تلِكَ اللَيالَي عِندَمَا يَغيبُ عَنّا الأحْبَابْ فَلا الدَمْعُ يُكَفكِفُ الآمَ الرَحِيل، ولا الوَجَعُ الضاربُ في أعْمَاقِ النَفْسِ يُخففُ لَوْعَةَ الفَقْدْ.
مرَّ شَرِيطُ الْعُمُرِ سَرِيعَاً وَاسْترْجَعْتُ نَبْضَ الذِكْرَياتِ فِي قَلْبِ الْزَمَنِ الْمُتْعَبْ، ودِفْئَ الْحِكَاياتِ بَيْنَ ثَنايَا الرُوحِ وَالتِي عَجِزَتْ أيادِي النِسيانِ أنْ تَطَالَها، ذِكْرَيَاتٌ تَحُومُ في سَمَاءِ الماضي لا تُخفِيها الغُيومْ، مُذْ كُنا أطفالاً ودفاترُنا لا زالتْ مملوءةً برسمِ طُفولِتنا، وفي أياّمِ الصِّبا حيثُ كانتْ ضَحَكاتُكَ الْبَرِيئَةُ تَمْلأُ الْمَكَانَ حَتَى آخرَ حَدِيثٍ بَيْنَنا قَبلَ رَحِيلكِ بِيَومَينْ وأنْتَ تُودّعُنِي بِكَلِمَاتٍ كَانتْ تَفِيضُ حَناناً كَمَا هُوَ عَهْدِي بِكَ دَائِمَاً، ليِنْتِهِي مِشْوَارُ العُمْرِ، وَيَطْويِه الْقَدَرُ وَتَحِلُّ ضَيْفَاً كَرِيمَاً عِنْدَ رَحْمَنٍ رَحِيمٍ كَمَا هُو قَدَرُ الأنْقِيَاءْ ، يَرْحَلُونَ بِهـُدُوءٍ، ويَترُكُـونَ بِمَوتِهـم فِي القُلُـوبِ وَجَعَـاً ، وفي الروح ألما ليكتبوا برحيلهم قِصَـةَ عَذَابٍ لا تُنـْسَـى .
كمْ هِي قَاسِيةٌ أحَادِيثُ الذِكْرَياتْ عِندَما تُداهمكَ فِي غِيابِ أصْحِابِهْا ، وفَقْدُ الرِفقةِ الجَميلـةِ ، فَتَكون غَصَّةً فِي الْحَلقْ، وَرَقْرَقةً فِي الْدَمعْ، وَحَشْرَجَةٌ فِي الْكلَام، تَعَوَدْتُ عَلى حُضورِكِ الْجَمِيل أيّهَا الحَنونْ وهَيهاتَ أنْ أتَعَودَ عَلى غِيابِك المُؤلِم فَأنْتَ مَا تَبَقَى لِي مِنْ نَبْضِ الحَيَاة.
عَضِيِدي، وحَبِيبي، ورَفيقَ دَرْبِي، ما زَالَ مَوْقِدُ الْشَوْقُ مُشْتَعِلْ وقَلْبِي مَحَطةَ عِشْقٍ تَنْتَظِرُ عَوْدَتكَ عَبْرَ مَمَرَاتِ الْفَرَحِ الْضَيِقَة لِنُعلْنَ مَعَاً بَدْءَ طُقُوسِ الُحَنيِنْ، تعال لأعْطِيَكَ نَبْضِي وَصَوْتِي، يا مَنْ تَسْكنُ فِي سُوَيْـدَاءِ القَلـبِ، وَبينَ ثَنايـا الـرُوح، وَفِي كُلّ تَفاَصِيلِ الْحَياة، ولَكنَّ هَيهـاتَ أنْ يَعـودَ الْرَاحِلـُونْ.
انْ سَألتَ عَنّي أيُّها الغَائبُ عَنَا الحَاضِرْ في وُجْدَانِنِا، فأنا مِنْ بَعدكَ أعْبُرُ مَحَطّاتِ الحَياةِ التي قَدْ تَطُولُ أو تَقْصْر، وَقَدْ تُرْهِقُ وَقَد تَصْفُو، وَقَد تُضْحِكُ وَقَدْ تُبكِي، ولَكنْ كُنْ عَلى يَقينٍ أننا عَلى دَرْبكَ سَائرونْ وسَتكونَ ذِكراكَ لنا دَافعاً لِصُنعِ الخَيرِ يا منْ اجتمعَ فيكَ النبلُ وحُبُ الخَيرِ وَكَرامةُ النَفْسْ.
أخي الحَبيبْ، يَا مًنْ أوْجًعتَ قلُوبًنًا وَقُلوبً كُلٍ مَنْ عَرًفًكً عًلى ثَرَى الأردنٍ الطًهَورْ، ان المَوتَ مُنتَهى كلّ حَي، وَسَتظلُّ حيّآ في قُلوبِنا وفِي قُلوبِ الكثيرينَ مِن الأهلِ والأصْدقِاءِ والأحبة، نَتذَكرُ ذَلكَ الفَارسَ الشَهمَ، َصاحبَ الأيادي البَيضَاءْ الْذِي لاقَى وَجَه رَبّه رَاضياً مَرضِياً مُخلِفاً سِيرةٌ عَطِرةٌ وذِكْرَى طَيَبةٌ، وارْثـاٌ كَبِيراٌ مِن مَحَبـةِ الْنَاسْ.
لَقدْ رَحَلتَ يَا حَبِيبِي إلى عَالمٍ أرحبُ وأوسعُ وأنقَى مِن هذا العَالمِ الذيْ نَعِيشْ، فَأرْقُدْ بِسَلاَمْ ، فأنتَ عِندَ مَنْ هُو أكْرمُ مِنّا جَمِيعاً، وَهِنيئاً لَكَ حُسنُ الخَاتِمة، وانَّ القَلبَ ليَدَمعْ وانَّ العَيَنَ لتَحْزَنْ وانّا عَلى فِراقِكَ يا رَفيقَ دَرْبِي لمَحزُونونْ، وَحَسبُنا قَوْلُ الله تَعَالَى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " صَدَقَ الله الْعَظِيمْ
• دبي- الامارات