أخبار الأردن اقتصاديات خليجيات دوليات مغاربيات برلمانيات جامعات وفيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

دور الثقافة والمثقفين في نهضة الأمة

مدار الساعة,مقالات
مدار الساعة ـ
حجم الخط

لم يكن مصطلح "ثقافة" المتعارف عليه اليوم مألوفا لا عند العرب القدماء ولا ابّان الدولة العربية الاسلامية الراشدية منها أوالأموية أوالعباسية ، وانما هي مفردة حديثة دخلت على اللغة العربية كترجمة لكلمة cultureالاجنبية ومشتقاتها حيث يقصد بها وفق تعريف العالم الانثروبولوجي البريطاني ادوارد تايلور وهو التعريف الأكثر استعمالاً بأنها ذلك المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والأعراف والعادات التي يكتسبها الانسان باعتباره عضوا في المجتمع"، وهي بهذا المعنى مكتسبة أي تتم عن طريق التنشئة الاجتماعية في البيت والمدرسة والمجتمع ويتم نقلها أو توريثها للأجيال المتعاقبة بعد غربلتها وتصفيتها من الشوائب، وهذه الخاصية من المميزات الايجابية للثقافة لأنها قابلة للتعديل والتغيير في حين يستحيل تغيير اوتعديل الصفات الوراثية البيولوجية او احلال صفات بديلة عنها .

أما المثقف فهناك تعريفات كثيرة له وأشهر هذه التعريفات هي للمفكر الايطالي انطونيو غرامشي حول ما اسماه بالمثقف العضوي الذي يتبنى قضايا مجتمعه ويدافع عنها لدرجة استعداده التضحية بوقته وجهده وماله وحتى ــ اذا لزم الأمر ـــ بروحه وهذا النوع من المثقفين ليس شرطا ان يكون متعلما ومن ذوي الشهادات او المؤهلات العلمية العليا فكثير من حملة هذه الشهادات منطو على نفسه ومنكب على تخصصه ولادور له في كل مايدور في مجتمعه بينما هناك أناس بسطاء من حيث مستوى التعليم وقد يكونون أميين ومع ذلك ينخرطون في الحياة العامة وينشغلون بالقضايا الاجتماعية ويقومون بمهام كبيرة واحيانا خطيرة في سبيل رفعة اوطانهم ومجتمعاتهم . ان أعداد هذا النوع من المثقفين ليست كثيرة في هذا الزمان الذي طغت فيه الهموم والمصالح الشخصية على الهموم العامة والمصالح الوطنية او المجتمعية العليا ومثال ذلك المثقفون المنخرطون في حركات التحرر الوطني ضد الاحتلال والاستعمار او المنخرطون في التنظيمات السياسية أو مؤسسات المجتمع المدني التي تدافع عن حقوق المواطنين في الحرية والعيش الكريم وتناضل ضد كل أشكال الاستبداد والطغيان والميز العنصري او العرقي او الجنسي او الديني .

وكما ان هناك انواعا مختلفة من الثقافة فهناك أيضا انواع من المثقفين فمنهم الوصولي المراوغ أو الذي يجيد فن مسك العصا من الوسط فكل يوم هو في شان تبعا لتغير الظروف والعهود وتبعا لخدمة أغراضه الخاصة ولو كان ذلك على حساب قضايا الوطن وحقوق المواطنين . وهناك المثقف الذي يطلق عليه البعض بالمقاول وهو على قدر عال من الذكاء الذي يوظفه في الترويج لبضاعة سيده ومشاريعه وأفكاره وهؤلاء يشبهون الوكلاء او الوسطاء المعتمدين للتنسيق ما بين الداخل المحلي والخارج الغربي وأمثلة هذا النوع كثيرة وفي المقدمة منهم المروجون للافكار والمناهج الاجنبية ومحاولة غرسها في بيئتنا من خلال دعاوى نشر الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ومحاربة الميز على أساس الدين او العرق أوالجندر وذلك من خلال تغيير المناهج الدراسية واعادة صياغتها بما يتناسب مع هذه الاطروحات . لكن المثقف الحقيقي والمطلوب في مجتمعاتنا هو المثقف الملتزم بقضايا وطنه ومجتمعه والمنفتح على الفكر العالمي والمتفاعل معه بايجابية ونديّة ياخذ منه ما يفيد في نهضة مجتمعه وتقدمه بما لايمس ثوابته العقدية والوطنية .ان هذا النوع من المثقين لايؤمن بالتنظيرالبرج عاجي فالكلام ــ بالنسبة له ــ الذي لايكون فيه جديد ونفع للوطن والمواطنين لاقيمة ولامعنى له اذ لايعدو ان يكون كما من الكلمات والعبارات الطنانة والتي قال عنها فلاسفة الوضعية المنطقية بانها عبارات جوفاء وخالية من المعنى لان قائلها يكثر من الكلام ويقلل من العمل الفاعل والجاد .فبدلا من أن يكون قوله مطابقا لفعله او حتى ان يسبق فعله الكلام وان يكون الكلام اداة لاحقة تعبر عن الفعل فانه يقول كثيرا وبالكاد لا يفعل الا قليلا .

ان العمل أو الفعل الثقافي لايمكن ان يقوم به فرد مهما كانت لديه من قدرات وانما تقع مسؤولية ذلك في المرتبة الاولى على الهيئىآت الثقافية المختصة بذلك ومالم لم تكن هذه الهيئآت جادة وفاعلة في محيطها ومجتمعها فانه لاقيمة لها فهي حينئذ تكون اطارات بدون مضامين . كما ان الفعل الثقافي لايتم في الفراغ وانما في مجتمع له مشاكله ومشاغله السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن هنا لايمكننا مثلا فصل الثقافي عن السياسي فالفعل الثقافي هو فعل سياسي بامتياز لانه يعبر عن تطلعات المواطنين وفق رؤيا او ايديولوجيا معينة اذ لاوجود لفعل ثقافي محايد حتى لو كان المثقف من انصار مذهب الفن للفن فهو هنا يتبنى وجهة نظر معينة ومنحاز اليها فالثقافة دائما متحزبة أي تنحاز وتدافع عن مصالح وقضايا فئآت اجتماعية معينة فهناك من المثقفين ممن يتبنى الفكر الاسلامي اوالقومي او الماركسي وكل مثقف من هؤلاء يتبنى قضايا المجتمع من وجهة نظر الفكر الذي يعتنقه .

ومن اجل أن يكون الفعل الثقافي فعالا لابد له من ان يكون عملا مؤسسيا لاينتهي بانتهاء مهمة شخص او مجموعة كانت تشرف عليه وانما هو عمل تراكمي يبني عليه اللاحق ويعزز ويغني عمل السابق كما انه ليس عملا اداريا روتينيا لتسيير المؤسسة الثقافية وان كان هذا لازما وضروريا ولكن العمل الثقافي الحقيقي فعل ابداعي متعدد الوجوه يثري الواقع الموجود ويغتني مما فيه وعليه فالمثقف الجاد والملتزم بقضايا مجتمعه قدوة ومثل اعلى ونموذج يحتذى به في الالتزام والانتماء بقضايا المجتمع العامة والتعبير عنها بطريقته وامكاناته وقدراته وبأشكال تعبيرية مختلفة منها الادب والشعر والفن والسياسة والتطوع وبأية وسيلة تتناسب مع ظروفه وامكاناته وقدراته يجسد من خلالها هموم الناس وتطلعاتهم ويعكسها في عمل فني وادبي تشعر المتلقي بارتباط العمل الثقافي بمشاغله وتطلعاته فيتجاوب معها فيغير ويتغير وبذلك يتحقق التحول الاجتماعي على المدى البعيد لان التغيرات الاجتماعية والثقافية لاتحدث فجأة وانما تتسم بالبطء الشديد وهي نتيجة لتراكم التغيرات الجزئية الكمية غير المحسوسة او المرئية ووصولها الى اللحظة التي تنقلب فيها الى تغيرات نوعية وعندها يصبح القديم غير قادر على الاستمرار فيفسح الطريق للجديد القادم لدرجة يظن الناس او يعتقدون انها حدثت هكذا فجاة وبدون مقدمات .

ان الفعل الثقافي الجاد يهدف في الأساس الى الارتقاء بوعي وبذوق الجمهور ونقله من حال ادنى الى حال أعلى وأسمى وتبصير الناس بما يدور في مجتمعاتهم المحلية ومحيطهم الاقليمي والعالمي من قضايا لها انعكاس ايجابي او سلبي على مجريات حياتهم وكيفية مواجهتها والتعامل معها وهذا لايتم الا اذا كانت هناك رؤية واضحة عميقة يستهدي بها المثقف وتوجه أعماله ونشاطاته رؤية مستندة الى قراءآت عميقة لما يدور من احداث من حيث بواعثها واهدافها وآثارها الممكنة القريبة والبعيدة على المجتمع . فالثقافة ليست نشاطا موسميا يقوم به المثقف بقصد الامتاع والترفيه وكسب الشعبية على طريقة" الناس عاوزه كدا" لاننا لسنا بحاجة الى ثقافة الاضحاك والتخدير بمقدار حاجتنا الى ثقافة التجديد والتغيير ثقافة جادة وملتزمة تضع كما يقال "الحديد في الجرح " ثقافة تعرّي الواقع وتشرّحه وتظهره لنا كما هو على حقيقته وبما فيه من ايجابيات وسلبيات وامكانيات ومعيقات واقتراح الحلول والبدائل الممكنة على ضؤ الامكانات المتوفرة والظروف المتاحة .

كما ان الثقافة ليست ترفا أو شيئا كماليا ولا ثرثرة فارغة وتشدقا بأقوال وعبارات جوفاء وانما هي تجسيد حي وخلاق للفكرة في الواقع المعيش على شكل أنماط سلوك وأفعال محسوسة ملموسة يتفاعل معها المواطن ويستجيب لها عندما يشعر بأنها تعبرعن همومه وتطلعاته . ان الثقافة الجادة سلاح فعال بيد المثقفين يواجهون به الجهل والتخلف والتبعية والاستبداد كونهم طلائع المجتمع الواعية والمنتمية والملتزمة بقضاياه والمدافعين عنها بشراسة وقادته الذين لا يخذلونه في ساعات المحن والشدائد لأنهم القابضون على جمر الكرامة الذائدون عن كرامته وأمنه واستقلاله والواقفون مشاريع استشهاد عن قضاياه في وجه الهجمات الثقافية المعادية التي تريد اقتلاع ثقافته وبالتالي تدمير أسس وجوده انهم حصن الوطن والشعب المتين الذي لاينهار ودفاعاته الأمامية في مواجهة قوى الردة والهزيمة والاندحار .

اننا نعيش في عصر التفجر العلمي والمعرفي والتكنولوجي فكل مافيه دائب التبدل والتغير قيما وعادات مفاهيم وثقافات واصبح المواطن فيه نهبا موزعا تحاصره المؤثرات الثقافية من كل حدب وصوب ومالم يكن محصنا من النواحي الدينية والثقافية والوطنية فانه سرعان ما تخور عزائمه وينهار ويصبح فردا مستلبا خطرا على نفسه وعلى مجتمعه ومن هنا يأتي دور المثقفين المنتمين لمجتمعاتهم والذين أطلق عليهم المفكر الايطالي انطونيو غرامشي بالمثقفين العضويين يأتي دورهم في التصدي لهذه الأخطار من خلال فعل ثقافي مضاد يقدم بدائل واقعية ومنطقية ومقنعة لاحلولا لفظية تتجاهل الواقع وما يدور في العالم من تغيرات تؤثر في المشاهدين والمستمعين وتحاول أن تسيطر على عقولهم وتخلق عندهم قناعات وقيما مغايرة لما ألفوه خاصة وأن وسائط الاتصال الحالية أصبحت تدخل الى بيوت وعقول الناس دونما استئذان.

نحن بحاجة الى مثقفين يواجهون هذه التحديات بمنطق العصر ووسائله ووسائطه لا الى نوع من المثقفين الذين يهربون في وجه هذه الاعاصير الثقافية المدمرة الى التراث ويختبأون اويحتمون فيه دون فرزه وتمحيصه وتوظيف الايجابي فيه واستخدامه من ضمن وليس كل الاسلحة في صد الهجمات الثقافية الوافدة . فالتركيز على التراث وتبنيه بعجره وبجره واهمال اسلحة العصر ومنطقه لن يؤدي الا الى حالة من الاغتراب والضياع النفسي والوجودي لدى المواطنين وهزيمة ساحقة ماحقة لكل منجزاتهم الثقافية والحضارية عبر العصور.

مدار الساعة ـ