الساعة - جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعة، وعلامات الخوف والارتباك تعلو وجهها؛ كيف لا، وأسرتها مهددة بالانهيار والتفكك، وبيتها مهدد بالضياع والتشرد، كل ذلك جراء كلمة غضب قالها لها زوجها، كادت أن تقضي على أسرة بأكملها، وتُنهي حياة زوجين عاشا معًا زمنًا مديدًا. فجاءت إلى رسول صلى الله عليه وسلم علَّها تجد حلاً لمشكلتها، فوجدت بيته مفتوحًا، ليس بينه وبين الناس حجاب ولا بواب.
تلك هي خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها، التي قالت عنها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت، تشكو زوجها، فأنزل الله سبحانه في القرآن الكريم سورة كاملة بحقها، سماها سورة المجادلة، افتتحها سبحانه بقوله: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} (المجادلة:1).
وتذكر كتب التفاسير بخصوص سبب نزول هذه الآية الكريمة، أن خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت رضي الله عنهما، كان بينها وبين زوجها ما يكون بين الرجل وزوجته من خلاف. وقد كان زوجها رجلاً سريع الغضب، فلما كان بينهما ما كان، حلف أن لا يقربها، وقال لها: أنت علي كأمي. وكانت هذه العادة من عادات الجاهلية التي حرمها الإسلام، لكن بقيت رواسبها عند البعض.
ثم إن أوسًا بعد ما كان منه ما كان، أراد أن يقرب زوجته فامتنعت منه، ورفضت أن تستجيب له، حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبره بما كان، لكن أوسًا تحرج منعه الحياء أن يذكر لرسول الله ما جرى منه؛ فذهبت خولة بنفسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرته بالذي حدث، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أراك إلا قد حرمت عليه) !! فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زوجها لم يرد بقوله ذلك طلاقًا ولا فراقًا، فأجابها رسول الله ثانية: (ما أراك إلا قد حرمت عليه)، فلما سمعت جواب رسول الله التجأت إلى الله قائلة: اللهم إليك أشكو حالي وفقري.
ثم أخذت تحاور رسول الله لتقنعه أنها تحب زوجها، ولا تريد فراقه، وأنه يبادلها نفس المشاعر، فما كان من رسول الله إلا أن أجابها ثالثة: (ما أراك إلا قد حرمت عليه)؛ ومع هذا، فإنها لم تيأس من رحمة الله، ومن ثم أخذت من جديد تحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن طريق التركيز على الجانب العاطفي والإنساني، لعلها تقنعه بإيجاد مخرج للمأزق الذي هي فيه، فتقول له: فإني وحيدة، ليس لي أهل سواه...إن لي صبية صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، فلا يجد لها رسول الله جوابًا إلا أن يقول لها: (لا أراك إلا قد حرمت)، فلما لم تجد لها جوابًا عند رسول الله، التجأت إلى الله قائلة: اللهم أنزل على لسان نبيك ما يقضي لي في أمري، فلم تكد تنتهي من دعائها، حتى أنزل الله على نبيه قوله سبحانه: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير}.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أنزل الله عليه قرآنًا، بين فيه حكم هذه الواقعة، دعا زوجها أوسًا ، وسأله أن يحرر عبدًا كفارة عن فعله، فأخبر أوس رسول صلى الله عليه وسلم أنه لا طاقة له بذلك، فسأله رسول الله إن كان يستطيع أن يصوم شهرين، فأجابه أنه لا يستطيع؛ لأنه رجل قد تقدم به العمر، والصيام يضعفه، حينئذ طلب منه رسول صلى الله عليه وسلم أن يتصدق على ستين مسكينًا، فأخبره أنه لا يملك من المال ما يتصدق به، فلما رأى عليه الصلاة والسلام من حاله ما رأى، تصدق عنه، وطلب منه أن يعود إلى زوجته.
وعلى ضوء سبب نزول هذه الآية وما تلاها من آيات، يمكننا الوقوف على بعض القضايا المهمة، والمتعلقة بشأن الأسرة والمجتمع:
أولها: مكانة المرأة في الإسلام، وأن لها من الحقوق، وعليها من الواجبات، كالتي للرجل، إلا ما فضل الله به بعضهم على بعض؛ قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} (البقرة:228)، وليس الأمر كما يقول البعض: إن الإسلام قد ظلم المرأة، وحرمها الكثير من حقوقها؛ فها هي المرأة تتوجه بشكواها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية أسرية، ويسمع الله شكواها من فوق سبع سموات، ويُنـزِّل قرآنًا في أمرها، مبينًا المخرج من أزمتها، مما يؤكد منحها كامل الحق في طلب العدل في أمرها، وأمر أسرتها وأبنائها.
ثانيها: أن في هذه القصة درسًا عمليًا لنساء الأمة الإسلامية ورجالها، يبين واجب المرأة في الدفاع عن مصالحها ومصالح أسرتها، وأن ذلك حق مشروع لها، لا ينبغي التفريط به بحال من الأحوال.
وثالثها: معرفة ما يسمى في شريعة الإسلام بأحكام الظهار، وهو أن يحرم الرجل على نفسه جماع زوجته، بأن يشبهها بأحد محارمه، كأمه وأخته؛ فيقول لزوجته مثلاً: أنت عليَّ كظهر أمي، أو أنت علي كظهر أختي؛ فتحرم الزوجة على زوجها، ولا يجوز لهما أن يتعاشرا معاشرة الأزواج، إلا بعد أن يكفِّر الزوج عن يمينه، بحسب ما عرفت من مجريات هذه القصة.