الحمدالله أنه ما يزال بمقدورنا أن نشتري حبة علكة بشلن، فـ «الشلنات» متوفرة في علبة فوارغ الفراطة مما بقي من الدينار في البيت، وهذا الشلن أبو خمسة قروش أو باللغة الرسمية خمسون فلسا لإعطائه قيمة فائضة عن التقدير لغايات تضخيم منصبه المالي، كاد يصيبنا بمصيبة لولا لطف االله، وعلى الرغم من أن هناك كثيراً من «أخوان الشلن» حسب وصف الشارع القديم قد إبتلعوا ملايين الدنانير ولم يصابوا بإمساك أو قولون عصبي كحالنا، فإن طفلا صغيرا سبب لنا حالة عصيبة من الخوف والقلق والاستشارات الطبية بسبب خمسة قروش.
طفلي الصغير «فيصل»،وللاطمئنان فإنه موضوع الحديث، إبتلع قطعة نقدية من فئة الخمسة قروش أو «الشلن» حسب المعيار الإنجليزي الذي نشأ عليه النقد الأردني، وذلك في غفلة من الجميع عنه، فانا في عاصمة المسؤولين، وأمه في زيارة لعمة مريضة من الجيران، وفجأة أعلنت حالة طوارىء، عدت فيها للبيت لأنقله للمستشفى حيث مرّت القطعة من فمه وتجاوزت البلعوم نحو المعدة، واستغرقت المراجعات لشهرين مضيا، دون خروج القطعة، والتصوير الشعاعي مضرّ به، ويلزم أسبوع على الأقل لنجري صورة ثانية، والقلق يأكلني وليس هناك طريقة سوى مراقبة لحظة إخراجه، حتى مرت الصفقة بسلام خارج أمعائه.
كنت مندهشا مما حصل، قلت له يا بُني لم يسبقك أحد من العائلة على ابتلاع قطعة نقد وطنية واحدة، فكيف رأيت ذلك كلعبة لتذوق طعم المال، أم تراك أدركت مبكرا أن التدريب على «لهط المصاري» وتعبئة البطن أصبح فنّا أتقنته طبقة الجيل الجديد ممن تسللوا الى شرايين الوطن في غفلة من الوعي الوطني فشربوا دمه حتى جف النخاع ولم يعد ينتج كريات دم جديدة، إحذر يا ولدي فإن الحرام يمحق أهله ويخزيهم رغم أناقتهم الطاووسية بين الناس، فنحن قوم لا يبيت الحرام بيننا، وإلا لاندثرنا مبكرا.
فيصل ليس موضوع حديثي أساسا، ولا ما جرى له فهو حالة خاصة، ولكنني أسقطها على من بلعوا ملايين الدنانير ولم يكفهم ذلك، بل صالّوا وجالوا في أركان الدولة، حتى رأينا «الوضيع في المكان الرفيع»، ورأينا كيف ذهبت مقدرات وطنية بناء على نظرية المستفيدين من تفكيك مؤسسات الوطن لحساب بطونهم، ومع هذا لم نر واحداً منهم دخل غرفة عمليات لإجراء غسيل معدة، بل يبحثون عن مصادر لغسل الأموال القذرة حتى رأينا كيف أغرقت البلد بالمواد الفاسدة.
لقد رأينا كيف سيطر الخوّنّة على المشهد بفضل أموال التهريب وشراء ذمم بعض المسؤولين والمتساهلين، وتوزيع العطاءات الكبرى بأعلى الأثمان وأدنى المواصفات، وكيف يجوح الناس من فقرهم وحيرتهم بأبنائهم، وكرش واحد يمتلك حصة آلاف العائلات دون أن يتجشأ.
فيصل أصابته حالة نفسية لتمنعّه من «الإخراج»، وفرح جداً عندما أظهر الفحص الأخير خروج «الشلن»، ولكن هناك عشرات من «إخوان الشلن» لا يصيبهم أي نغزة ضمير ولا حالة نفسية عارضة، وما زالوا يتحدون قانون الجرائم وقانون النزاهة والأخلاق وقانون الوطنية والعفاف، بل أصبحوا بالوعة يطلبون المزيد ويجهدون في توريط غيرهم للدخول الى نادي الفساد مع السجائر المعفنّة وشحنات القمح الفاسدة وناقلات الوقود غير الصالحة والأغذية منتهية الصلاحية، ثم نسأل: لماذا وصلنا الى هذا الحال,, والأصل أن نسأل أين مروءة الرجال؟
الرأي