ذهب بتفكيره للبعيد... قبل أربعين سنة عندما رُزق بإبنه الأول بلال وكيف أقام الدنيا ولم يُقعدها من فرحة بسنده وعزوته ولده... بلال ومن ثم جاء عبدالرحمن وتلته وفاء ثم سلسبيل وختم أبناؤه بموفق... وبدأت رحلة العمل الشاق من نجاح لنجاح...
وبدأت الأموال تتدفق والعقارات تزداد والسيارات تتنوع... وكان هم الحاج عمر أن يدرّس أبناؤه في أكبر المدارس الأجنبية وأن يلبسوا أغلى وأرقى الملابس مما حرم منه وهو في مثل أعمارهم، يأكلون أحسن أكل ويشربون أحسن شرب وهكذا دواليك مرت الأيام سراعاً ويكأنها لحظات، ليكبر هؤلاء الأطفال ويصبحوا شباباً.
حاول الحاج عمر جاهداً أن ينقل خبرته بالعمل لأبنائه من خلال وضعهم معه فيه ولكنه لم يكن يعلم أن ذلك كان أكبر خطأ ارتكبه... فأبناؤه ولدوا أصحاب مال أما هو فقد صنع بيديه المال. وكيف لمن لم يتعب بزرع الشجر أن يحسن استخدام الثمر!!
فقد عاث أبناؤه فساداً بالمال مع جُلّ محاولاته الجادة بتدريبهم وخلق روح المسؤولية عندهم... ولكن لم يكن يعي أن بعض الأمور تفسد إن جائت متأخرة... فما فائدة قدومك للجح بعد انتهاء يوم عرفات!! وبالفعل هذا ما كان فقد بذل الحاج عمر سنوات لتعديل سلوك أبنائه قبل أن يوقن بأن ذلك أقرب للمستحيل...
فإكتفى بأن يقنن مصاريفهم علّ ذلك يُعدل من سلوكهم ولكنه... أيضاً لم يفلح في ذلك... لأن الأبناء اعتادوا على وجود نهر من النقود لا ينضب فكيف لمن اعتاد أن يعيش في جنة دنيويه... كل طلباته مُجابة أن يرضى بحياة الناس العاديين... فاجتمع الأبناء وقرروا عمل حجر على والدهم لكي لايحرموا من متع الدنيا التي اعتادوا عليها... فأصبح الحاج عمر حبيس المنزل... ممنوع من زيارة شركاته وأمواله كالطفل الذي يرى الألعاب من خلف الزجاج... يكتفي بمتعة النظر وسعة الخيال وحرقة الحرمان!!
يتابع كيف تبدد أمواله التي جناها بعرق الجبين على أيدي أولاده المستهترين عن بُعد... دون أن يكون له كلمة أو قرار...
شعر بغصة كبيرة في قلبه... لام نفسه كثيراً على عدم إحسان تربيته لهم... كم سمع عن قصص السلف قصته تشبه قصصاً إلا أنه لم يكن ليتخيل أن تحدث معه في يوم من الأيام لام نفسه كثيراً... في وقت لم ينفع فيه الندم شعر كشعور فرعون حينما غرق وقال "آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين" فجاءه الجواب : "آلآن؟" نعم آلآن...
عاد بذاكرته إلى الوراء حيث كان أطفاله حوله يلعبون ويمرحون تخيل أنه يلعب معهم يربيهم يعلمهم البرّ.... انتقل الحاج عمر من حياته الحاضرة ليعيش في الماضي لم يعد يتذكر سوى الأحداث القديمة... الأصدقاء القدماء الأطفال... وكان يرفض الحديث عن آخر سنوات... يعيش في الماضي الجميل فقط تراه يبتسم تارة... ويمعن في التأمل تارة أخرى... تسأله عن أي شيء فيجيب على السؤال بإجابة لا علاقة لها به...
سألته مرة: حاج عمر... ماذا تحب أن تفعل هذه الأيام؟!
أجاب: أحب أن ألعب مع ولدي الوحيد بلال واستمتع بإنتظار مولودي الثاني فزوجتي حامل كما تعلم!!
ثم سكت وقال: بدي أسألك صحيح بحكوا أنه في ناس اشترت أراضي بعد جبل الحسين؟؟؟ تخيل يا حرام شو موديهم هناك مافي بني آدم خلا خالي ورب متعالي...
ثم ناداني وقال: بيقولوا ولعت بين العراق وإيران... رح تبدأ حرب يسموها قادسية صدام... الله عليك يا صدام شو بحبك... وابتسم قبل أن ينتقل من مقعده لمقعد آخر...
نظرت اليه وأنا أقول في نفسي... رحمة الله عليك يا صدام... نعم يا عم... هيك بحكوا بس ان شاء الله ما تصير حرب... أنا بكره الحروب
- إن شاء الله، إن شاء الله