إن لم تقع المفاجأة، وتتكشف الاتصالات السورية – الكردية عن تفاهمات في السر، أكبر وأوسع مما هو ظاهر في العلن، كما تقول بعض المصادر المطلعة في دمشق وبيروت، فإن من المتوقع أن تتحول مناطق شرق الفرات وحوض الفرات الجنوبي إلى ساحة مواجهة وتزاحم بين أطراف محلية وإقليمية فاعلة وحاضرة بقوة.
مصادر دمشق وحلفائها، سبق وأن «سرّبت» من المعلومات، ما يشي بترجيح كفة التفاهم بين الحركات الكردية من جهة ودمشق من جهة ثانية ... ليس لدى الأكراد من خيارات واسعة على أية حال، وكل ما يقال عن «مقاومة» و»صمود»، ليس سوى «جعجعة بلا طحين»... لديهم واحد من خيارين اثنين: إما مواجهة «كسر عظم» مع تركيا التي تتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، وإما القبول بما يمكن التوصل إليه من تسويات وحلول وسط مع دمشق، تعطي هذه المناطق، نوعاً من أنواع الحكم الذاتي في إطار سيادة الدولة السورية، كما سبق وأن صرح بذلك وليد المعلم قبل عدة أشهر... وما ينطبق على الحركات الكردية ينطبق بالدرجة ذاتها على ميلشيات العشائر العربية على اختلاف ولاءاتها ومرجعياتها، فهذه بعد الانسحاب الأمريكي، ستبحث عن راعٍ جديدٍ لها، وستجده في دمشق أو أنقرة، أيهما أقرب للمصلحة وحسابات البيدر.
تركيا لن تقف صامتة أو مكتوفة الأيدي، وهي اليوم في وضع أفضل بكثير مما كانت عليه قبل عدة أشهر، علاقاتها مع واشنطن في تحسن مطّرد، والانسحاب الأمريكي من شرق الفرات، جاءها بمثابة هدية على طبق من فضة، إن لم يكن قراراً منسقاً معها، ثم أن واشنطن قدمت لها مؤخراً رزمة من «التنازلات» التي من شأنها تحسين وضعها التفاوضي قبالة كل من موسكو وطهران ودمشق، منها: (1) صفقة الباتريوت من دون اشتراط إلغاء صفقة الـ «إس400» الروسية... (2) تمديد فترة السماح والإعفاءات الممنوحة لها من منظومة العقوبات المفروضة على إيران ... (3) إبداء الاستعداد للشروع في دراسة تسليم المعارض التركي الأبرز فتح الله غولن لأنقرة.
والأرجح أن تركيا التي تراهن على حاجة واشنطن لإبعادها عن موسكو أو إبقائها في فلك واشنطن و»الناتو»، ستعمل على فرض سيطرتها على شريط حدودي واسع وممتد مع سوريا، يخدمها في إعادة توطين المعارضات التي لجأت إليها، أو تلك المرشحة للجوء في حال حسم ملف إدلب من جهة، وتمكنها من التخلص من فائض اللاجئين السوريين على أراضيها من جهة ثانية، والأهم من هذا وذاك، يمكنها من التحكم بمصائر الحركة الكردية ومنع قيام كردي مستقل أو شبه مستقبل، وكسر التواصل ما بين أكراد تركيا وأكراد سوريا، وفي ذلك مصلحة تركية استراتيجية من منظور أمنها القومي ووحدتها الترابية.
تركيا ستتحاشى الاصطدام بالجيش السوري أو الوصول إلى نقطة افتراق مع موسكو أو طهران، فهي بحاجة لهما مثلما هما بحاجة إليها ... وتركيا أطلقت إشارات دالّة على استعدادها للتعامل مع «الأمر الواقع» في دمشق، وإن بعد انتخابات رئاسية مقبلة، يفوز بها الأسد بولاية جديدة ... لكن ذلك، لن يمنع تركيا، كما لن يمنع خصومها، من اللجوء إلى «حرب الوكالة» إن اقتضت الضرورة ذلك، ولدى الأطراف المختلفة، من المليشيات ما يكفي لخوض حرب طويلة الأمد على هذه الجبهات.
ثمة لاعب ثالث يتربص لحظة الانقضاض وإعادة فرض الحضور، وأعني به تنظيم داعش، الذي وإن فقد معظم الجغرافيا السورية، إلا أنه لم يفقد بعد قدرته على المباغتة وشن هجمات نوعية، بل واستعادة السيطرة على مناطق واسعة ... معارك الأشهر الأخير حول هجين وجوارها، أظهرت أن التنظيم ما زال يمتلك القدرة على الهجوم وإعادة التنظيم، مثلما أظهرت أنه يتوفر على عدد وافر من المقاتلين والقادة، تقدر مصادر استخبارية أعدادهم بما يتراوح ما بين 6 – 10 آلاف مقاتل.
الأرجح أن روسيا تدرك أن ثمة لغما أمريكيا قد زرع في قلب الثلاثي الضامن لمسار أستانا-سوتشي، وأن الصراع على شرق الفرات قد يغرس المسمار الأخير في نعش «تحالف المصالح» هذا ... والمؤكد أنها لا تريد لعلاقاتها مع تركيا أن تعاود مسار التدهور والانهيار ... روسيا ستكثف دور الوساطة بين دمشق وأنقرة وطهران، وستسعى بكل جهد من أجل الوصول إلى صيغة «خفض تصعيد» في هذه المناطق، تمكن النظام من العودة إلى معظمها، وتحفظ لتركيا مصالحها وحساباتها في هذه البقعة الاستراتيجية من سوريا، وإن إلى حين.
الدستور