فايز الفايز
في ساحة الإعتصام الليلي الذي تجمع فيه محتجون على قرارات الحكومة، هنالك مكتب خاص يطلق إشارات بث تتجاوز مسألة الرقيب على فئة من محتجي الشارع، بل تحول الى قاعدة بيانات ضخمة تدعم مشروعا مستقبليا يسعى الى تغيير آلية الحكم في رئاسة الوزراء وتحويل المجتمع السياسي الى «روبوتات» ذكية تتحرك بناء على البرامج الذي يبثها ذلك المكتب الخفي، مراهنا على عدة عوامل أهمها الرعب، الذي أصاب قيادات في الدولة، من مسألة المساس بالوصاية الديمقراطية لمجموعة مدعومة من مجلس التخطيط العالمي، وهذا ما نعرفه جيدا حين نرى التنظيم البارع لشباب مفعمين ومحترفين يشكلون الماكينة الرئيسة للحراك منذ رمضان الماضي، وراقبوا جماعات المسير الليلي.
الماكنة الرئيسة في ساحة الإعتصام الذي حاول كسر السلمية، هي أشبه ما تكون بفرقة "كاركلا» وفكرتهم «بدوي في الصحراء» ومسرحهم « كارنغي هول» ،فوضع أقدامهم مدروس تماما، شعاراتهم ذكية جدا، سقوفهم تطاول «القطوف الحامضة»، وحولهم العدد الأكبر ممن جاؤوا من الأطراف والمحافظات بحثا عن «الهايد بارك اللندني» ليصرخوا فيها بوجه الحكومة وبشعارات وأهازيج مكررة منذ مسيرات عقد التسعينات وما بعدها، وهم بكل براءة لا يعرفون متى سيهجم الذئب عندما يطوعون له الخراف المتعبّة، فبعد هذه الحكومة لا نستبعد أن يخرج علينا وجه لا يعرفنا ولا نعرفه، بل يعرف كيف يرسم خارطتنا الإجتماعية والسياسية جيدا بعدما استنزفت مواردنا.
إن محاولة تيار الدولة المدنية المتحررة، الوصول الى الحكومة المطلقة للحكم قد بدأت منذ عدة سنوات على أجنحة الهبوط الحاد في عقلية رجال الدولة، حيث بدأ التحريض على المجتمع الأردني وشيطنة القوى السياسية الوطنية وأجهزة الدولة الأمنية والقوانين الرادعة لانحلال المجتمع وضرب أسس التعليم المدرسي والجامعي وتفريغ المحتوى التعليمي من الإرث الوطني والقيّم الدينية والتربوية، مستغلين الآزمات الإقتصادية وارتفاع البطالة والتفريط الممنهج بموارد الدولة، ليضعوا نظرياتهم لمستقبل جديد من الزراعة السياسية المعدلّة جينيا، ليقبضوا على عنق الحكم المحلي فيبدأ مستقبل معاناة جديد لأبناء الأرض البوارّ والعسكر الأحرار، الذين يحرسون هتافات البعض ممن خطفوا الشارع، وركبوا ظهور المحتجين، ثم هاجموا رجال الأمن ففجعونا بباطنيتهم ويرعبوننا مما يخفوه من عنف لفظي وحركي.
في تموز 1969 أصدر الراحل الملك الحسين قراره بتشكيل حكومة عبدالمنعم الرفاعي الأولى، والتي ضمت شخصيات وازنة وقوية، حيث كان الملك يريد هدم الهوة مع المعارضة والمنظمات المسلحة، وكانت حكومة الرفاعي آنذاك أقرب الى المنظمات المسلحة منها الى الدولة، إذ وظفت عملها لإفساح المجال للعمل الفدائي على حساب الأمن الوطني، كان عاكف الفايز نائبا للرئيس والمقرّب منه كان ياسر عرفات، بل إن غالبية الوزراء كانوا من جماعة المنظمة، ومع هذا ترك الملك الساحة لهم لإيجاد صيغة مشتركة لتطويع المتمردين ضمن الدولة الأردنية، ولكن باءت كل المحاولات بالفشل، فكان جورج حبش أعنف من أن تهدأ أعصابه.
كان حبش يخرج مع مجموعته اليساريين ليلقي الخطابات الحماسية والتهديدية والتحريضية كلما توصل أبو عمار والحكومة الأردنية الى أي إتفاق، ويعقد مؤتمرات صحفية ومقابلات مع الصحافة الأجنبية يهدد فيها الدولة الأردنية ويحض على التمرد لغايات الوصول الى ما يسميه العدو الإسرائيلي، ولكن الطريف في الأمر أن غالبية الجمهور كانوا يلتفون حولهم معجبين بالدجل السياسي، ومنهم وعلى أكتاف غبائهم كان يأخذ مشروعيته القيادية، ولكن لم يستيقظ الملك إلا وقد وقعت الفأس بالرأس، فبحث عن كل القوارب ولم يجدها، فاضطر الى سفينة الجيش.
جورج حبش مات في مستشفى الأردن، الواقع مقابل ساحة الاعتصام أو ما يسمى بالرابع، ولكن تجربته عادت الى الحياة ليست بالكلاشينكوف والبازوكا، بل بعقلية جديدة مدعومة بالتكنولوجيا والسوشال ميديا والإستعراض على مسرح الآلام المدروسة جيدا، راقبوا جماعات المشي الليلي فهم أفضل من يعتصم، بينما الحكومة أشبه بحصان طروادة التي ستدخلهم قلعة الدولة المدنية، فيما آثام الفاسدين والقرارات الكارثية التي حصدت ما بجيوب المواطنين ليست سوى بداية الانفكاك لمخزون الدولة المدينة وبناء دولة كالرايخ الثالث الديمقراطي العنيف..فهل من مدّكر. الرأي