أقرّت اللجنة المالية النيابية أخيرًا مشروع قانون موازنة العام 2026، بعد ماراثون من 104 اجتماعات موسعة غطت كل وزارة وهيئة حكومية.
هذا الرقم، بحد ذاته، وصفة للجهد الاستثنائي الذي بذله الأعضاء في محاولة فهم أدق تفاصيل الوثيقة المالية الأهم في الدولة , لقد قاموا بمراجعة أثر 230 قراراً حكومياً، وحلّلوا بنود النفقات والإيرادات، وناقشوا شبكات الأمان الاجتماعي , هذا العمل الشاق والمفصّل يُظهر تطوراً في آليات العمل البرلماني، ويستحق الاعتراف والإشادة الصادقة.بين التفاصيل والرؤية: أين الخيط الاستراتيجي؟!عند الغوص في التفاصيل، يبرز سؤال محوري: ما هي الرؤية الاقتصادية الشاملة التي تجمع هذه التوصيات المتناثرة؟! اللجنة انتقلت من مناقشة رفع الرواتب (وهو مطلب عادل ولكنه يزيد النفقات الجارية)، إلى التحفيز العقاري، ثم إلى البرامج السياحية، فدعم الزراعة، وريادة الأعمال، دون أن تبلور أولوية وطنية واضحة , أي هذه القطاعات ستكون قاطرة الاقتصاد الحقيقي القادر على خلق ثروة دائمة وفرص عمل مستدامة؟! يبدو أن "الاقتصاد الوهمي" الهش – الذي يعتمد على الخدمات والعقارات – ما يزال حاضرًا بقوة، عبر تمديد إعفاءات عقارية قد تغذي الفقاعات، وتركيز سياحي على البرامج الترفيهية قصيرة الأجل , بينما جاءت التوصيات الخاصة بالصناعة التحويلية والاقتصاد الإنتاجي (مثل دعم التصنيع الزراعي والمشاريع الريفية) عامة وغامضة الآلية، وكأنها إضافة للقائمة لا جوهر لها.-الخلل الهيكلي: 88% نفقات جارية... والتوصيات تتعامل مع الأعراضهنا تكمن المفارقة الأكثر إيلامًا , فقد أشار أحد الأعضاء إلى أن 88% من إجمالي النفقات "جارية"، وأن جزءًا كبيرًا منها يُهدر في تعقيدات الجهاز البيروقراطي بدل أن يتحول إلى خدمات للمواطن , هذا تشخيص دقيق لمرض الاقتصاد الأردني المزمن: اقتصاد يستهلك أكثر مما ينتج.ومع ذلك، فإن معظم التوصيات تعاملت مع أعراض هذا المرض، لا مع أسبابه, بدلاً من توصية جريئة بإعادة هيكلة الجهاز الحكومي ودمج الهيئات المتشابهة لتحرير الموارد، اكتفت اللجنة بتوصيات جزئية مثل "ربط نمو نفقات الشركات الحكومية بنمو إيراداتها" , إن معالجة الخلل الهيكلي تتطلب جرأة سياسية تتجاوز بكثير إصدار التوصيات التقنية."-التوصيات غير الملزمة"... فخ يحوّل الجهد إلى طقوسوهنا نصل إلى العائق المؤسسي الأكبر: كل هذا الجهد الاستثنائي المبذول في 104 اجتماعات، يظل في النهاية مجرد "توصيات غير ملزمة" للحكومة. لا توجد آلية قانونية لإجبارها على التنفيذ، ولا محاسبة واضحة على الإهمال. هذا الواقع يحوّل العمل البرلماني الجاد، رغم كل نيَّاته الحسنة، إلى طقس مؤسسي متقن، قد يرضي شكليًا عن واجب الرقابة، ولكنه يفشل في فرض تغيير حقيقي على الأرض.نحن بحاجة إلى نقلة نوعية: من "توصيات غير ملزمة" إلى "خطة عمل مُلزمة بمؤشرات أداء"، تُرفع تقارير متابعة ربع سنوية بشأنها علنًا، ويُسأل الوزراء عن تنفيذها أمام اللجنة والشعب .-من مراجعة الأرقام إلى تغيير المسارالتحدي الآن هو الانتقال من مرحلة "مراجعة الأرقام وإصدار التوصيات" إلى مرحلة "تغيير المسار الاقتصادي".هذا يتطلب جرأة استراتيجية من خلال التركيز الحصري في التوصيات على الاقتصاد الإنتاجي (الصناعة، الزراعة الحديثة، التكنولوجيا) كخيار وطني لا بديل عنه , و مقاربة جذرية من خلال اقتراح خطط عملية وإجرائية لإعادة هيكلة النفقات العامة، وتحويل المزيد من الموارد من البيروقراطية إلى الاستثمار المنتج, مع رقابة فاعلة تمثّل السعي لتطوير الآلية البرلمانية لتصبح توصياتها ملزمة أو شبه ملزمة، مع نظام متابعة ومساءلة علني.المواطن الذي ينتظر فرصة عمل حقيقية، لا يريد أن يسمع عن عدد الاجتماعات، بل عن كم فرصة عمل ستخلقها هذه الموازنة، وأي قطاع سيوفرها، ومتى؟!هذا هو المقياس الحقيقي لأي جهد برلماني، وهذا هو الاختبار الذي ننتظر أن تجتازه اللجنة المالية – وجميع مؤسسات الدولة – في الموازنات القادمة , التغيير ومدى لمسه على الأرض هو المقياس الحقيقي لأي انجاز مالي او غيره .104 اجتماعات للموازنة: جهد برلماني استثنائي... فهل يكفي لتغيير المسار؟!
مدار الساعة ـ