المقدّمة
قِصَّةُ كتابي “ألفُ صفحةٍ وصفحة” هي رحلةُ عُمرٍ ممتدّة، ومَسيرةُ فكرٍ وعملٍ وسياسة، وسفرٌ طويلٌ في ذاكرةِ العائلة والحيّ والوطن والإنسان. هي محاولةٌ لجمعِ شتات التجارب وتدوين ملامح التحوّل، والبحث عن معنى الحرّيّة والسلطة والوعي، في عالمٍ يتغيّر بقدر ما يتقلّب، ويُضيء بقدر ما يُعتم، ويمنح بقدر ما ينتزع.عندما بدأتُ التفكير في كتابٍ يَدور في فلكِ الفكر والسياسة بزاويةٍ شخصية وذاتية، تردّدتُ طويلًا في اختيار عنوانٍ يليق به؛ فكان خياري الأول أن يكون: “الربيع العربي المُرّ”، لما حملته أحداث ليبيا وسوريا واليمن من دمارٍ، وما شهدته مصر والمغرب وتونس من تقلباتٍ سياسية، انتهاءً بسوريا مجددًا، وما تركه مشهد الاحتجاجات العربية من أثرٍ عميق، منذ أن أشعل البوعزيزي شرارة النار في جسده وفي الوجدان الشعبي العربي معًا.توالت الأحداث كأمواجٍ عاتية، تحملُ معها آمالًا عريضة تلتها خيبات، وتفتحُ أبوابًا للديمقراطية، قبل أن تُغلقها حروبٌ أهلية، وفوضى عارمة، واصطفافات إقليمية ودولية نقلت الشعوب من ربيع الحلم إلى خريف الألم. في كل ذلك، كنتُ شديد الحذر في الكلمة، محاولًا أن يكون الكتاب مدخلًا للتفكير لا منصةً للإدانة، وساحةً للفهم لا ميدانًا للصراع.من “ألف ليلة وليلة” إلى “ألف صفحة وصفحة”وفي خضمّ الإبحار في الأحداث، رجعتُ إلى كتاباتي القديمة في الشأن العربي والعالمي، وإلى ما كتبته عن الأردن وفلسطين على وجه الخصوص، فرأيتُ أن الواقع يتغيّر يومًا بعد يوم: سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا، حتى تغيّرت الألفاظ ومعانيها، وصار لكل طرفٍ قاموسه الخاص.في تلك اللحظة، خطر ببالي كتاب ألف ليلة وليلة، الذي جُمعت فيه الحكايات الشعبية في العصر الذهبي للإسلام، وتألقت فيه عبقرية الراوية شهرزاد، التي كانت تُبقي القصة مفتوحةً كل ليلة خوفًا من السيف، فتُبقي شهريار معلّقًا بين القتل والإنصات، وبين الدم والحكاية.ومن هنا وُلد عنوان كتابي:“ألف صفحةٍ وصفحة”.ليس لأنني أريدها ألفًا حرفيًا، بل لأنني أريد للتجربة أن تبقى مفتوحةً بلا نهاية؛ فحراك الشعوب نحو حقوقها لا ينتهي، وسعي السلطة إلى فرض شروطها لا يتوقف، وتحوّلات العالم مستمرة إلى أن يأذن الله بانطفاء آخر سراج.الدّين والسياسة: بين التداخل والتورّطقد يظنّ القارئ أنّي أستسيغ نقد الحركات السياسية، وهذا صحيح؛ لأنني أرفض أن تُحاسَب الأديان من باب ممارسات تنظيماتٍ أخفقت في برامجها، فحمّلت العقيدةَ أخطاءها، وجرّت المجتمع لمحاكمة السماء على سوء إدارة الأرض.كان الأصل أن تشتغل تلك التنظيمات بالدعوة والفكر، لا باللهاث خلف السلطة ولو على ظهر دبابة، وأن تُقيم شرعيتها على برنامجٍ اجتماعيّ وسياسيّ واقتصاديّ لا على تأويلات دينية متناقضة.وهذا لا يعني إقصاء أحد عن السياسة، لكنّه يعني — وبوضوح — أن الطريق إلى السلطة يجب أن يكون من باب الشعب، لا من بوابة السماء.بين الحكم المطلق والحكم التعدديوقد يقرأ البعض مواقفي فيتوهم تقبّلي للحكم المطلق، وهذا غير صحيح؛ فأنا ابنُ التجربة، أحببتُ أن أغوص في نماذج الحكم المختلفة، عسى أن أرى فيها نواة التحول الديمقراطي الذي يُمكّن الشعوب من الإمساك بزمام السلطة. لكنني اكتشفت — مرارًا — أن بعض تلك النماذج لا تُبشّر بشيء، وأن بديلها ليس حمل السلاح ولا هدم المجتمعات.لقد حوّل الربيع العربي حلم الحرية إلى خريفٍ مُرّ؛ ثوارٌ بلا نظرية تغيير، وأنظمةٌ بلا رحمة، وقوى خارجية تُدوّر عجلة الفوضى لمصالحها. ومع ذلك، يبقى الأمل ممكنًا، وقد رأينا النموذجين الأردني والمغربي ينجحان نسبيًا في تحقيق توازنٍ سلميّ، كما رأينا نجاحات اقتصادية لافتة في الإمارات. ولو جمعنا نجاحًا سياسيًا بآخر اقتصادي لصنعنا نموذجًا محليًا يليق بقيمنا وثقافتنا.رحلتي الشخصية: من العاصفة إلى الهدوءماذا أكتبُ ولديّ الكثير لأقوله؟من أين أبدأ، ورحلتي لم تنتهِ بعد؟لا أدري أيّ الموانئ ستستقبلني بعد هذا البحر الطويل، ولكنّي أعلم أنّ الرياح التي كسرت أشرعتي قد صنعت صلابتي، وأنّ العواصف التي باغتتني منحتني حكمةً أكبر مما توقعت.كان حنا مينه، وفيكتور هوغو، وعبد الرحمن منيف، وغسان كنفاني، ومؤنس الرزاز، رفقاء روحي، ومرايا أزماتي، ومعينًا لي كي أكتب قصتي بيدي.وقد تأثر هذا الكتاب — أسلوبًا وروحًا — بالتجريب الذي ميّز أدب مؤنس الرزاز، ذلك الاشتباك العجيب بين السيرة الذاتية والميتارواية، وبين الواقع والمتخيّل، وبين الأزمنة المتداخلة التي تُنتج نصًا ينهل من السياسة والفكر والتاريخ والمعاناة والفرح والحزن معًا.الأردن وفلسطين… وطنٌ واحد في الروحهذا الكتاب ليس سيرة ذاتية بالمعنى التقليدي، ولا تحليلًا دقيقًا لكل حدث، لكنه مشهدٌ واسعٌ للأحداث كما عشتُها.وحين أتحدث عن المكان، فإنّي أتحدث عن الأردن وفلسطين بوصفهما وطنًا واحدًا في الروح، فجذوري من عمواس التي كان يرتفع فيها علم الأردن على كل مؤسسة قبل احتلالها، ولذلك فإن تحريرها قضية أردنية كما هي فلسطينية، وكتابتي لا تُفرّق بين الضفتين، لأن التاريخ لم يُفرّق يومًا بين شعبٍ سُقي من نهرٍ واحد.التجربة الإنسانية قبل التجربة السياسية“ألف صفحة وصفحة” ليس كتابًا لمحاكمة أحد؛ بل هو خلاصة تجارب إنسانٍ قبل أن يكون سياسيًا؛إنسانٍ أخطأ وأصاب، تعلّم كل يوم، ونضج كل يوم، وتحوّل وطور أفكاره كل يوم.الفكر ينمو كالشجرة، واقفًا لا زاحفًا، والحياة حركة، أما السكون فموت.تطوّر وعيي كما تطوّر العالم، واستفدت من كل حدث، وتغيرتُ بقدر ما بقيت وفيًّا لثوابتي الوطنية والقومية والإنسانية.بين الثورة والمقاومة… وتحوّل الوعيكانت كلمات مثل “الثورة” و“المقاومة” تُطربني وتأخذني إلى مواقف حادة، لكنّ القراءة الدائمة كانت تعيدني إلى منطق الحياة. أدركتُ أن الثورة تحتاج نظرية، وأن التغيير يحتاج فلسفة، وأن الشعوب تحتاج برامج لا شعارات، وإرادة لا ضجيجًا.الخاتمة: الربيع الذي قد يخضرّ يومًاأقول في النهاية:هذا الكتاب لا يحاكم، بل يروي.لا يُنهي، بل يبدأ.لا يُغلق صفحة، بل يفتح ألف صفحة وصفحة بعدها.تجربتي لم تنتهِ، ولن تنتهي إلا بانتهاء رحلتي في هذه الدنيا.وعندها، سيأتي آخرون ليكتبوا ربيعًا جديدًا؛ربيعًا يبدأ أخضر، وربما يمرّ،ولكنه — رغم كل شيء — قد يخضرّ من جديد.أبو زيد يكتب: ألفُ صفحةٍ وصفحة: سيرةُ روحٍ تبحث عن معنى — من الربيع العربي إلى ربيع الوعي
زيد أبو زيد
أمين سر المكتب السياسي لحزب مسار
أبو زيد يكتب: ألفُ صفحةٍ وصفحة: سيرةُ روحٍ تبحث عن معنى — من الربيع العربي إلى ربيع الوعي
زيد أبو زيد
أمين سر المكتب السياسي لحزب مسار
أمين سر المكتب السياسي لحزب مسار
مدار الساعة ـ