أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جاهات واعراس جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

قرقودة تكتب: إنت فَلّاح ولا بَدوي؟ ولا الإثنين مع بعض؟


تغريد جميل قرقودة

قرقودة تكتب: إنت فَلّاح ولا بَدوي؟ ولا الإثنين مع بعض؟

مدار الساعة ـ

هُناكَ أَسْئِلَةٌ لا تَأْتي لِتُجابَ مُباشَرَةً، بَلْ لِتَفْتَحَ نَوافِذَ جَديدةً في وَعْيِنا. وَمِنْ أَكْثَرِها حُضورًا في الذّاكرةِ الأُرْدُنِّيّةِ سُؤالٌ يُشْبِهُ شَرارةً تُضِيءُ تاريخًا بِأَكْمَلِهِ: هَلْ ثَمَّةَ فَرْقٌ حَقيقيٌّ بَيْنَ الفَلّاحِ وَالْبَدَوِيِّ؟

إِنَّهُ سُؤالٌ يَلْمَعُ كَحَجَرٍ قَديمٍ تَحْتَ شَمْسٍ جَديدةٍ، يَكْشِفُ طَبَقاتٍ مِنَ التَّحوُّلِ، وَيَدْفَعُنا إِلى التَّأَمُّلِ في مَلامِحِنا الَّتِي تَغَيَّرَتْ دُونَ أَنْ نَنْتَبِهَ. فَفِي الأُرْدُنِّ لَمْ تَعُدِ القَضِيّةُ فَوارِقَ نَمَطِ حَياةٍ فَحَسْبُ، بَلِ تَحَوَّلَتْ إِلى جَدَليّةٍ اجْتِماعيّةٍ وَفَلْسَفِيّةٍ تُسْهِمُ في تَشْكيلِ هُوِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ تَسْتَنِدُ إِلى مَجْمَلِ الجُذُورِ.

لَقَدْ كانَ الفَلّاحُ وَالْبَدَوِيُّ، لِعُقودٍ طَويلةٍ، تَجْرِبَتَيْنِ مُتَمايِزَتَيْنِ؛ لِكُلٍّ مِنْهُما عالَمُهُ وَإِيقاعُهُ وَنَكْهَتُهُ الخَاصّةُ. فَالْفَلّاحُ قَريبٌ مِنَ الأَرْضِ، يَقْرَأُ أَسْرارَها مِنْ تَشَقُّقاتِها، وَيَصْنَعُ يَوْمَهُ بِمِقياسِ المَواسِمِ. أَمّا الْبَدَوِيُّ فَهُوَ ابْنُ الصَّحْراءِ، يُجالِسُ الرِّيحَ وَيَعْتَبِرُ الفَزْعَةَ وَالكَرَمَ وَالشَّهامَةَ مَبَادِئَ لا تُناقَشُ.

وَلَمْ تَكُنْ هذِهِ الفُروقُ طَبَقِيَّةً، بَلِ اخْتِلافاتِ بِيئَةٍ وَتاريخٍ وَأُسْلُوبِ مَعيشَةٍ.

وَمَعَ الزَّمَنِ حَدَثَ التَّحَوُّلُ الكَبيرُ: اخْتِلاطٌ اجْتِماعيٌّ واسِعٌ، وَزِيجاتٌ تَجْمَعُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَبُيوتٌ يَتَقاطَعُ فِيها الإِرْثانِ في المَساحَةِ ذاتِها. لَمْ يَعُدِ الطِّفْلُ يَسْأَلُ: «مَنْ أَنَا؟» وَفْقَ نَمَطٍ واحِدٍ، بَلْ وَفْقَ انْتِماءٍ أَوْسَعَ: «أَنا أُرْدُنِّيٌّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ.»

فَأُمٌّ فَلّاحِيَّةٌ تَمُدُّ البَيْتَ بِالثَّباتِ وَالتَّنْظيمِ، وَأُمٌّ بَدَوِيَّةٌ تَحْمِلُ شَجاعَةَ الصَّحْراءِ وَكَرَمَ الرُّوحِ، وَكِلْتاهُما تَزْرَعانِ في الأَبْناءِ صَلابَةً وَحَنينًا وَارْتِباطًا بِالأَصْلِ دُونَ تَعَصُّبٍ.

وَأَبٌ بَدَوِيٌّ يُوَرِّثُ أَبْناءَهُ صَفاءَ النِّيّةِ وَالسَّخاءَ، وَآخَرُ فَلّاحِيٌّ يُعَلِّمُهُمْ دِقَّةَ المُلاحَظَةِ وَفَنَّ قِراءَةِ التَّفاصيلِ، وَكِلاهُما يَصْنَعانِ ضِلْعًا مِنْ هُوِيَّةٍ واحِدَةٍ تَتَّسِعُ لِلْجَميعِ.

أَمّا المَرْأَةُ الأُرْدُنِّيَّةُ، فَلَيْسَتْ فَلّاحِيَّةً خالِصَةً وَلا بَدَوِيَّةً خالِصَةً، بَلْ هِيَ المِحْوَرُ الَّذِي يَلْتَقي عِنْدَهُ النَّمُوذَجانِ.

عِنْدَ زَواجِها تُصْبِحُ حَلَقَةَ وَصْلٍ لا تُلْغي شَيْئًا وَلا تُقَدِّمُ شَيْئًا عَلى حِسابِ آخَرَ، بَلْ تُعيدُ تَوْزينَ الإِرْثَيْنِ داخِلَ البَيْتِ بِطَريقَةٍ تَجْعَلُ الاخْتِلافَ مَصْدَرَ غِنى لا سَبَبًا لِلشَّرْخِ.

فَالْمَرْأَةُ — فَلّاحِيَّةً كانَتْ أَوْ بَدَوِيَّةً — تَمْتَلِكُ القُدْرَةَ ذاتَها عَلى تَحْويلِ العاداتِ إِلى نَسيجٍ حَيٍّ، وَاللَّهْجَةِ إِلى لُغَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَالْماضي إِلى رَكيزَةٍ تُضِيءُ وَلا تُقَيِّدُ.

هِيَ لَيْسَتْ «جِسْرًا» فَحَسْبُ، بَلْ صانِعَةُ تَوازُنٍ تَحْفَظُ جُذُورَ البَيْتِ دُونَ أَنْ تُغْلِقَ نَوافِذَهُ، وَتَمْنَحُ أَبْناءَها رُؤْيَةً أَوْسَعَ لِأَنْفُسِهِمْ في تَعَدُّدِهِمْ، لا في انْحِيازِهِمْ.

وَفِي العُمْقِ، يُمْكِنُ القَوْلُ إِنَّ الفَلّاحَ وَالْبَدَوِيَّ لَمْ يَعُودا صُورَتَيْنِ اجْتِماعيَّتَيْنِ مُنْفَصِلَتَيْنِ، بَلْ بُعْدَيْنِ داخِلِيَّيْنِ في الشَّخْصِيَّةِ الأُرْدُنِّيَّةِ المُعاصِرَةِ.

فَالْفَلّاحُ فِينا هُوَ صَوْتُ الجُذُورِ وَالصَّبْرِ وَإِتْقانُ البِناءِ،

وَالْبَدَوِيُّ فِينا هُوَ نِداءُ الحُرِّيَّةِ وَالسَّخاءِ وَالكَرامَةِ الرَّفيعَةِ.

وَحينَ يَجْتَمِعُ البُعْدانِ في البَيْتِ الواحِدِ، تَتَكَوَّنُ شَخْصِيَّةٌ قادِرَةٌ عَلى الجَمْعِ بَيْنَ الثَّباتِ وَالحَرَكَةِ، بَيْنَ الطِّينِ وَالرِّيحِ، بَيْنَ حِكْمَةِ الأَمْسِ وَطُمُوحِ الغَدِ.

لَيْسَ الأَمْرُ تَزاوُجًا بَيْنَ نَمَطَيْنِ فَحَسْبُ، بَلْ وِلادَةَ وَعْيٍ جَديدٍ يَتَجاوَزُ التَّعْريفاتِ الضَّيِّقَةَ نَحْوَ هُوِيَّةٍ أَعْمَقَ وَأَوْسَعَ.

وَهكَذا تَلاشَتِ الحَواجِزُ الَّتِي ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّها ثابِتَةٌ؛ فَالأُرْدُنُّ اليَوْمَ لا يُعَرَّفُ بِحُدودِ النَّمَطِ، بَلْ بِامْتِدادِ الرُّوحِ.

صارَ البَيْتُ الأُرْدُنِّيُّ أَشْبَهَ بِشَجَرَةِ زَيْتُونٍ: جُذُورُها في الأَرْضِ، وَأَغْصانُها في الفَضاءِ، تَسْتَمِدُّ حِكْمَتَها مِنَ الفَلّاحِ، وَكَرامَتَها مِنَ الْبَدَوِيِّ، وَمِنِ اخْتِلاطِهِما تُولَدُ شَخْصِيَّةٌ أَكْثَرَ نُضْجًا وَانْفِتاحًا.

وَتَقولُ فَلْسَفَةُ هَذا المُجْتَمَعِ بِوُضوحٍ: الاخْتِلافُ إِضافَةٌ لا مُفاضَلَةٌ.

قَدْ يَسْتَمِرُّ السُّؤالُ: مَنْ هُوَ الفَلّاحُ؟ وَمَنْ هُوَ الْبَدَوِيُّ؟

غَيْرَ أَنَّ الأُرْدُنَّ أَجابَ بِطَرِيقَتِهِ: بِالاخْتِلاطِ، وَبِالانْتِماءِ، وَبِاليَقينِ أَنَّ الجُذُورَ حينَ تَتَشابَكَ تُصْبِحُ أَقْوَى.

لَقَدْ وُلِدَ جِيلٌ جَديدٌ يَعْبُرُ فَوْقَ التَّصْنيفَاتِ، لا هُروبًا مِنْها، بَلْ لِأَنَّ هُوِيَّتَهُ أَعْمَقُ مِنْ أَنْ تَخْتَصِرَها كَلِمَةٌ. جِيلٌ يَعْرِفُ أَنَّ الأَصْلَ لَيْسَ حُدودًا، بَلْ أُفُقًا.

وَفِي النِّهايَةِ يَبْقى السُّؤالُ الفَلْسَفِيُّ مُعَلَّقًا أَمامَ كُلِّ قارِئٍ:

إِنْ كُنْتَ تَحْمِلُ شَيْئًا مِنَ الأَرْضِ، وَشَيْئًا مِنَ الرِّيحِ… فَهَلْ أَنْتَ فَلّاحٌ أَمْ بَدَوِيٌّ؟

مدار الساعة ـ