لا أحد يشك في إيجابيات الحوار، ودوره في تبادل الأفكار وتلاقح الرؤى؛ من أجل التوصل إلى الحق أو الحقيقة، أو إلى نقاط اتفاق يمكن البناء عليها؛ لتحقيق مصالح مشتركة.
وحتى يؤتي الحوار الثمار المرجوة منه، يجب أن يكون طرفاه على مستوى النـدّيـة؛ من حيث الفهم العميق لموضوع الحوار، ومعرفة خفاياه وخلفياته، ومن حيث القدرة على الالتزام أدبيا، أو قانونيا بما يفضى إليه الحوار، ويتم الاتفاق أو التوافق عليه.
كان من الواجب أن يكون الحوار، من حيث الأصل، مع نـدِّ الحكومة الأول، وهو مجلس النواب الذي كان عليه أن يجري، بداية، حوارات مع أهل الاختصاص والخبراء، والأكاديميين القادرين على فهم القانون، وإدراك انعكاساته على شرائح المجتمع المختلفة، وعلى وضع البدائل المنطقية والواقعية لما يرون فيه إجحافا بحق هذه الشريحة أو تلك ؛ إذ لا غنى لمجلس النواب عن الاستعانة بكل المتخصصين لشرح القانون، ووضع اليد على نقاط القوة والضعف فيه، والتماس الحلول والبدائل الممكنة لما يرون فيه مغالاة في المسّ بجيوب متوسطي الدخل والفقراء، أو انحيازا للأثرياء وذوي الدخول العالية، من أفراد وقطاعات.
إن نـدّ الحكومة (المفترض) الأول هو مجلس النواب؛ باعتباره ممثلا للشعب أو هكذا يجب أن يكون. ولكن مجلس النواب كمجلس(مع استثناء بعض الآحاد من أعضائه) لم يعد يمثّل لدى المواطنين جهة مؤتمنة على مصالحهم؛ لأسباب، وأسبقيات كثيرة، أقربها أن مشروع القانون هذا، بكامل قيافته، كاد أن يمـر في عهد الملقي من... المجلس بكل سهولة لولا أن الناس تقاطروا على الدوار الرابع؛ رفضا للقانون، وللمجلس، وللحكومة معا، فأطاحوا بالحكومة ورئيسها الذي أصم أذنيه عن صراخ الناس، ولم يبصر درب الآلام التي يقادون فيها، منذ زمن.
كما كان على الحكومة، ذاتها، أن تجري هي، أيضا، حوارات حقيقية مع أهل الاختصاص، على أن يكون هؤلاء من (خالي الشهوة)، وغير المتأثرين بالقانون تأثرا يزيد عن تأثر الغالبية العظمى من المواطنين، بمعنى ألا يكون حوارها الأساسي، مثلا، مع أصحاب البنوك، والشركات الكبرى.
جاءت حكومة الرزاز على وقع اعتصامات المواطنين على الدوار الرابع، وأعلن الرئيس الرزاز، منذ البداية، سحب القانون المثير للجدل والخلاف، والبدء بحوار حول قانون جديد يرضاه الناس، أو ترضى عنه الغالبية العظمى منهم بعد إجراء تعديلات جوهرية عليه، مع التركيز على تفعيل محاربة التهرب الضريبي الذي يمارسه أفراد متنفذون، ومنشآت، وتتردى في جريمته قطاعات متعددة.
كان المأمول أن تحاور الحكومة أهل الاختصاص الذين أشرنا إليهم بالمواصفات المذكورة من الفهم، والقدرة على وضع الحلول والبدائل، والأفكار الإبداعية.
وهذا وذاك لا يمنعان، أيضا، من الاستماع إلى (بعض) مؤسسات المجتمع المدني، والنقابات ممن ليس لأعضائها دخول عالية فيها مظنة كبيرة للتهرب الضريبي من جهة، وتمتلك القدرة على تحصيل أضعاف ما يمكن أن يلزمها القانون بتأديته من ضرائب- من عيون الطفارى والمساكين، من خلال رفع أسعار خدماتها.
كان بإمكان حكومة الرئيس عمر الرزاز أن تجري حوارها مع الجهات السابقة، على أن تخرج من هذه الحوارات بتوصيات مكتوبة وموثقة؛ من أجل دراستها، وبناء مواد القانون على هدي منها.
ولكن الحكومة، بكل أسف، لم توفق في اختيار الطريق السليم لإجراء هذا الحوار؛ لأنها بحسن نية، أو بسوء نية، لم تقم باختيار الأطراف التي يجب أن تحاورها. فكانت كمن يغسل يديه، دون أن يعرف مع من سيأكل.
إن إرسال الوفود الحكومية إلى المحافظات والألوية، وفق أسلوب( الجاهة الكريمة) والاجتماع بأشخاص، (ربما) تم انتقاؤهم، فلن يؤدي إلى حوار حقيقي بمعنى الحوار، فمثل هذه الآلية لن تخرج بنتائج حقيقية، إلا إذا كانت الخكومة تريد أن توهم الناس بأنها حاورتهم.
عادت بعض وفود الحكومة إلى عمان من المحافظات والألوية، وسيعود بعضها سالمين غانمين بحمد الله، ولكن بماذا عادوا؟ وبماذا خرجوا من تلك اللقاءات ؟ وما هي تقاريرهم إلى مجلس الوزراء إذا كانت هناك تقارير؟؟
هل عاد بعضهم فرحا بفكرة جديدة؟ ببديل جديد؟ ، بحل إبداعي ؟؟؟ أم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون؟ أم يتبادلون التهاني بالسلامة؟.
إن فشل الحكومة في التماس الطريق الصحيح للحوار حول قانون ضريبة الدخل، سيؤدي بالجميع إلى المربع الأول، وربما إلى الدوار الرابع، وسنظل ندور في حلقة مفرغة، خصوصا وأن احتجاجات الناس تتعدى القانون كقانون إلى ما وراء القانون من كل ما هو رسمي أو حكومي، وإلى الاختلالات الكثيرة والكبيرة التي لا يشكل هذا القانون إلا عنوانا فرعيا صغيرا من عناوينها الرئيسة الحقيقية.